الدكتور جمعة بن علي آل جمعة

اقتصاديات عالمية مهتزة داعية لتوازن القوى

«بالإصرار سوف نمضي قدماً إلى أن تتحول كل وديان اليأس إلى قمم للأمل، وإلى أن يتحول كل جبل من جبال اللاعقلانية إلى تلة وضيعة ممزوجة بالتسوية، إلى أن تتحول أماكن الظلم القاسية إلى سهل ناعم من التساوي في الفرص، وإلى أن يتم تصحيح أماكن الإجحاف الملتوية بآلية تقويم أساستها بحكمة وبعيون نيّرة»، هذا القول لمارتن لوثر كينغ يلخّص لنا ما يحاول الدكتور جمعة بن علي آل جمعة، الوزير السابق لوزارة القوى العاملة العمانية ورئيس مجلس ادارة الشركة العمانية لإعادة التأمين «عمان ري» والمتولّي مناصب قيادية عدة في سلطنة عمان، شرحه عن التوازن والتحالف الذي يتوجّب على دول العالم عموماً والدول العربية خصوصاً تبنّيه بما يحطّم كل قيود السلم الاجتماعي والازدهار الاقتصادي ويبني جسوراً قائدة لترسيم المستقبل بصورةٍ أزهى مزيّنة بالتشارك والتعاون والصلابة.

يتراءى للدكتور جمعة الذي بنى من تجاربه خبرةً عميقة ومهنية عالية، أن بعض القساوة تحوم حول العام الحالي الممزوج بالصراعات السياسية الاقتصادية التي قد تقودنا الى حروبٍ لا تحمد عقباها ان لم نمضِ قدماً في التفاوض لتحويل وديان الحروب الى قمم السلام.

* ما هي قراءتكم لواقع القطاع الاقتصادي العالمي والاقليمي في ظل التقلبات التي يشهدها؟ وكيف تقيّمونه؟

يمر الوضع الاقتصادي العالمي بحالة لم يعشها يوماً الاّ خلال الحروب العالمية، يُعزى ذلك الى جائحة كورونا التي شلّت اقتصادات العالم واعاقت التواصل الانساني والاجتماعي وغيّرت السلوكيات. انتظرنا بفارغ الصبر الخروج من دوامة هذه الجائحة لتنفّس الصعداء ولتنطلق الاقتصاديات مجدداً وتزخر بالنمو بعد أن عانت لفترةٍ من الزمن. لكن مع الأسف، ما لبثنا أن بدأنا بالتعافـي من تداعيات الجائحة الى أن حلّت الحرب الروسية – الأوكرانية التي زادت على السوء سوءاً وكبحت الانطلاقة قبل شروعها. هذا الصراع تسبّب في تضخّم اقتصادي عالمي مدفوع بضخّ النقود في الأسواق، الى جانب بروز مشاكل الطاقة والغذاء، مما أدى بالنتيجة الى القلّة والارتفاع الحاد في الاسعار. من المعلوم أن أوروبا تعتمد في توريد الطاقة على روسيا، والعراقيل الحاصلة أدّت الى صراعات جانبية أخرى وردود فعل تمثّلت بوضع القيود الاقتصادية على تلك الأخيرة التي في المقابل قرّر رئيسها الروسي عدم بيع منتجات الطاقة الاً بالعملة المحلية. هذه الصراعات دفعت ثمنها المصانع التي إمّا توقّف قسم منها عن العمل أو خفّضت من حجم الانتاجية. بالاضافة الى تأثر قطاع النقل سلباً نظراً لارتفاع اسعار الطاقة الذي أدى بالمقابل الى رفع اسعار التأمين.

هذه المعطيات كلها ستقود الاقتصاد الى التحوّل من المسار التضخّمي الى المسار الركودي المضرّ أكثر بالوضع الاقتصادي. كل تلك التقلبات وعدم الاستقرار في العملة والاقتصاد، ولّدت الحاجة للشعور بالأمان المالي مما دفع للّجوء الى الدولار الأميركي المستقرّ والمتصل بكافة العملات المحلية. هذا الطلب المتزايد على الدولار ادّى الى ارتفاع قيمته وانخفاض قيم العملات الأخرى.

* ما مدى تأثير الحرب الروسية-الأوكرانية على الاتحاد الأوروبي كقوّة اقتصادية عالمية؟

هناك ثلاثة أنواع من القوى: قوة ناعمة متمثّلة بمراكز الأبحاث والدراسات، قوة صلبة متمثّلة بالجيوش وقوة اقتصادية. هذه الأخيرة لا تتماشى مع كل الظروف القائمة، اذ أن القوتان الصلبة والناعمة هما الأهم في وضعنا هذا، المانيا قاطرة الإتحاد الأوروبي مثلاً لا تملك لا قوة ناعمة ولا قوة صلبة بل قوة اقتصادية. بناءً عليه، يمر الاتحاد الأوروبي اليوم في وضعٍ صعب نتيجة الحرب القائمة بين أوكرانيا وروسيا التي كانت في يوم من الأيام أحد أعداء أوروبا، انّما اضحت بعد ذلك جزءاً متعاملاً معه ضمن المنظومة الاقتصادية، وأنابيب الطاقة الممتدة بين الدول خير دليل عل ذلك. باتت اوروبا عالقة بين طرفـي الخلاف ومنقادة للطرف الأقوى.

* هل ممكن ان تؤدي الحرب الروسية-الأوكرانية بعد خروج المملكة المتحدة البريطانية من الاتحاد الأوروبي الى تفكيك هذا الاتحاد؟

الدول القائدة لهذا الاتحاد تتمحور حول ألمانيا وفرنسا ثم ايطاليا وغيرها. أن أرادت فرنسا وألمانيا الابتعاد عن الصراع القائم بين روسيا وأوكرانيا، فستعمد الى التكاتف مع بعضها والحفاظ على التحالف الاوروبي. انّما ان استمرّ هذا الخلاف فستلجأ كل دولة الى التصرّف، بما تمليه عليها المصلحة الخاصة على حساب المصلحة العامة، وذلك لحماية نفسها وشعبها من الخسائر.

* كيف تتاثر المنطقة العربية بكل الأزمات التي يشهدها العالم؟

يقولون أن العالم “قرية كونية” وأنا أقول أنه بات “منزلاً واحداً”، وبالتالي لا بد للمنطقة العربية أن تتأثّر سلباً أم ايجاباً بما يدور حولها. تم التداول مثلاً أنّ ارتفاع أسعار النفط أثّر ايجابياً على الدول النفطية، هذا الارتفاع كان متوقّعاً للتعويض عن فترة الركود التي عاشها الاقتصاد عقب جائحة كورونا التي عرقلت الاستثمارات في مجال الطاقة لمدةٍ معيّنة. بعد الخروج من تلك الفترة ارتفع الطلب مجدداً على منتجات الطاقة وفاق كمية العرض المتاحة مما أدى بديهياً الى تضخّم. تعاقبت الحرب الروسية-الأوكرانية وجائحة كورونا، مما ضلّلنا وأوهمنا أن سبب الارتفاع مردّه الى الحرب وليس الى الجائحة. الشحّ في الطاقة أدّى بالولايات المتحدة الأميركية التي تحوي أكبر مخزون نفط مقدّر بـ ٧٥۰ مليون برميل الى استخدام قسم كبير منه فانخفض الى نحو ۳٦۰ مليون برميل. بالاضافة الى انّ رئيس الولايات المتحدة وعد بضخ ما يقارب الـ۱٧۰ مليون برميل في السوق بهدف خفض سعر النفط الى ٧۰ دولار.

نتّجه اذاً نحو الركود الاقتصادي في المنطقة العربية نتيجة عدم توافق العرض والطلب لا سيما الدول النفطية منها. المشكلة الأكبر أننا دخلنا في مرحلتي التضخّم والركود في آنٍ معاً نتيجة السياسات المتّبعة وضمنها رفع اسعار الفائدة الهادف الى الحد من التضخّم الذي أعاق وأوقف الكثير من المشاريع مما انتج ركوداً.

السؤال الذي يُطرح هنا: هل سيتحمّل العالم هذا الركود؟ والى أين قد يقودنا؟ سيقودنا الى اضطرابات وصراعات اضافية ما بين الدول قد لا تحمد عقباها.

* رغم أن المنطقة العربية غنيّة بالموارد على كافة الصعد الاّ أنها فشلت في بناء اقتصادات متكاملة ومتداخلة في ما بينها… ما هي الأسباب؟ وما هي الحلول؟

ما استقيناه من علم في المدارس والجامعات لقّننا أن التحالف بين الدول العربية واجب وحاجة، الاّ انّ الواقع لم يطابق العلم اذ أننا نفتقر للثقة المتبادلة. نحتاج الى تبديل سلوكياتنا بما يتوافق مع ثقافتنا وعدم التملّص من تأدية واجباتنا وخدماتنا بفعالية وحرفية إن لم تكن تصب في مصلحتنا. علاوةً على ذلك، تفتقر بعض الدول الى الاستقرار والثبات التي تنعم به دول أخرى محافظةً على أمنها الاجتماعي الاقتصادي.

الثقة المكتسبة عبر الصدق والشفافية، هي اذاً قاعدة التحالف والتعاون في ما بين الدول وبين الحاكم والمحكوم وداخل الدولة ذاتها ومؤسسات المجتمع المدني والمجالس.

“بناء الانسان” هو ضرورة أخرى يجب تطبيقها عبر تجويد وتحسين التعليم وربطه بالمهارات فتكون النتيجة معادلة قائمة على اضافة المهارة الى العلم بما يساوي “بناء الانسان”. اؤكّد على أنّ النوعية والكفاءة تفوق الكمية أهميّةً وهدفاً، فعوضاً عن توظيف مئة عامل مثلاً قد نكتفي بعشرين فنّي ومختص قادر على تقديم عمل أجود بسرعة أكبر. الكفاءة الممزوجة بالمعرفة قد تنتج عملاً محترفاً جديراً بالتميّز ضمن بيئة داعمة للنجاح. يبقى الانسان محور الكون، لذلك يفترض الاستثمار في الموارد البشرية لبناء مستقبلٍ زاهر وحاضرٍ أفضل.

من جهة أخرى، يجب توفير نظام حوكمة عالي المستوى في دول العالم العربي للمحافظة على الحقوق، الكفيلة ببناء ثقة باستقرار الأمن ووجود القوانين الحامية والقضاء العادل النزيه، الأمر الذي يولّد طمأنينة لدى الشعوب بصيانة حقوقها وممتلكاتها. بالاضافة الى وجوب توفير بيئة استثمارية مؤاتية ومتكاملة مؤلفة من موارد بشرية مؤهلة واراضٍ صالحة للمشاريع وموارد مالية اقتصادية مؤمّنة ومتشعّبة وقوانين محفزة للإقتصاد وحامية وحافظة للحقوق، مما يولّد تكاتفاً في ما بين الدول العربية التي تمتاز بقربها الجغرافـي ومواقعها الاستراتيجية المسهّلة لعمليات التصدير والاستيراد وتنوّع مناخها وطبيعة أراضيها، بما في ذلك مناطق الري والجبال والصحاري والبحار التي تطلّ على دول وقارات مختلفة من العالم. فالمغرب مثلاً قريبة من اسبانيا، فيما انّ لبنان قريب من اليونان وتركيا ودول الخليج قريبة من شبه القارة الهندية وشرق أفريقيا، هذا التنوّع يشكّل غنًى كبيراً للدول العربية التي يمكنها استغلال مواقعها لتنمية مشاريعها واعمالها وبالتالي اقتصادياتها. لكن القوّة لا تكمن فقط في وفرة هذه الموارد انما في توطيد الثقة عبر تطبيق قوانين شاملة لكل بلدان الوطن العربي، بما يصبّ في مصلحتها جميعها دون استشناء، فيفترض اذاً الاّ تقتصر سياسات هذه الدول على تطبيق المصالح الخاصة، انما التنبّه الى مطابقة المصلحة العامة ايضاً بما يعزز التعاون بين هذه الدول وتحقيق الوحدة العربية.

هل نجحت دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية في تحقيق هذه الوحدة في ما بينها؟

إن اردنا مقارنة دول مجلس التعاون الخليجي بالمجالس الأخرى أو بالجامعة العربية، فهو الأنجح. ولكن هل استطاع بصورة عامة مطلقة الوصول الى تحقيق الوحدة الكاملة المرجوّة؟ باعتقادي لم يتوصّل بعد الى تحقيقها. يجب تسليط الضوء على ميزة كل دولة والاستفادة من الامتيازات جمعاء عبر مشاركتها بين الدول بما ينتج أعمالاً فريدة وعالية الجودة. كما يجب الابتعاد عن الروح التنافسية التي من شأنها ان تعرقل مساعي بعض الدول في تطوير اعمالها وتحقيق المصلحة المشتركة لدول المجلس والتركيز على الروح التكاملية.

كنا قد بدأنا بالتفاوض مع الكتل الاقتصادية التي يسهل التفاوض معها كمجموعة على مفاوضتها كدولة مستقلّة، فالوحدة تعزز موقعنا في المفاوضات التي ما لبثنا ان توقّفنا عنها. بالاضافة الى ذلك، ينبغي على دول المجلس التي تمتلك الفائض للموارد والطاقات ان تزوّد الدول المفتقرة لها ببعض منها لتحقيق التوازن بين الدول. نأمل ان نعود الى زخم التشارك الذي كنا قد باشرنا في تنفيذه مسبقاً، فبدايات مجلس التعاون لدول الخليج العربية كانت أكثر فاعلية مما هي عليه اليوم.

كيف تتصوّرون التطوّر الاقتصادي في العام ۲۰۲۳؟

يتراءى لي أن الوضع الدولي سيكون “سائل” في العام ۲۰۲۳ بسبب صراعات الدول الكبرى ومعظمها دول نووية كروسيا ودول النيتو كالولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وفرنسا. هذه هي المرة الأولى التي يتشابك بها العالم على هذا المستوى الذي لم نشهده حتى خلال الحرب العالمية الثانية التي كانت خالية من القوة النووية، بإستثناء الولايات المتحدة الأميركية في أواخر الحرب العالمية الثانية عندما ملكت القوة ثم إستخدمتها ضد اليابان، مما يُثبت ان وضع العالم اليوم أسوأ من وضعه سابقاً. علاوةً على الصراع بين تايوان والصين التي تعدّ ايضاً دولة نووية، هذا ما كان يسمّى بـ”توازن الرعب” الذي يمنع الدول من التصارع، الاّ اننا اليوم نجدها تتداخل في خلافاتٍ متشّعبة وفي الحرب الروسية-الأوكرانية. إن لم يعلُ صوت الحكمة والعقل على صوت المصالح فسندخل حتماً في حربٍ نووية مدمّرة لا يمكن تصوّر عواقبها. يجب اذاً اللجوء الى طاولة الحوار الملاذ الآمن للحلول والسلم.

لا شك أن الوضع الاقتصادي مرتبط رباطاً وثيقاً بالاستقرار السياسي، فقد ينحدر المستوى الاقتصادي ان استمرينا على هذه الوتيرة مما قد ينتج تضخّماً اكبر وركوداً أصعب لا سيما في الدول لنامية أو الفقيرة التي تتأثر بالوضع العام وإن كانت بعيدة عن الصراعات. بناءً على ذلك، اتوقّع أن العام ۲۰۲۳ سيكون قاسياً على اقتصاديات العالم ما لم تتوقّف هذه الحرب ولم يتمّ التوصّل الى حلول مرضية لكل الأطراف.

 

 

 

 

 

 

Comments are closed.