سعر الصرف: التباين بين الأحكام وتحديات توحيدها

بقلم: الدكتور بول مرقص

بدأت الأزمة الإقتصادية والإجتماعية في لبنان تتفاقم وتحتد منذ تشرين الأول/أكتوبر عام ٢٠١٩، وتفاقمت مع ارتفاع سعر صرف الدولار مقابل الليرة اللبنانية لأول مرة بعد العام ١٩٩٣، ويأتي هذا الوضع غير المسبوق نتيجة سوء الإدارة الحكومية. سنوات من الفساد والإداري، أدت إلى استغلال المليارات من تدفقات المودعين المالية، وتبديد ثروات طائلة في دعم قطاعات غير إنتاجية في بلد لا يملك أدنى مقومات الإنتاجية والإعتماد الذاتي، في وقت كان يفترض فيه توظيف الأموال في سبيل مشاريع إنمائية واستثمارات مربحة تعود بالفائدة على المواطنين. انعكس التدهور المالي على مستوى معيشة اللبنانيين ككل، حيث ارتفعت أسعار السلع والخدمات، وتقلصت قدرة المواطنين الشرائية بشكل حاد، وفقدت المداخيل قيمتها، وأصبح وصول الناس لودائعهم مقيداً. بالمحصلة، إن كل الآثار السلبية للوضع المالي والإقتصادي الـتـي وصـل إلـيـهـا لـبـنـان أثرت سلباً وبشكل مباشر على سعر الصرف. فكان السعر الرسمي المعتمد والموحد فـي لـبـنـان محدد بـ / ١٥٠٧ / ليرة لبنانية للدولار الواحد، لكنه استمر بالارتفاع خلال السنتين السابقتين ليلامس مع نهاية عام ٢٠٢١ سقفاً يتجاوز العشرين ألف ليرة للدولار الواحد في السوق السوداء، حتى أصبحنا أمام مشكلة تحديد السعر الرسمي في ظـل وجـود منصات عدة لسعر صرف الدولار الأميركي من قبل المصرف المركزي، سواء التعميم رقم / ١٥١ / الذي حدده بـ / ٣٩٠٠ / ليرة أو غيره من التعاميم التي صدرت بعده، ومنضة صيرفة سنعرض في ما يلي:

۱- مخاطر تعدد سعر الصرف.

٢- المرجع القانوني الصالح لتحديد سعر الصرف الرسمي لليرة اللبنانية

٣- الأحكام القضائية التي صدرت في ما خص تحديد سعر الصرف لذا ما هي المخاطر التي طرأت نتيجة تعدد أسعار الصرف في لبنان؟

أولاً: مخاطر تحدد أسعار الصرف

يعتمد القطاع المصرفـي اللبناني بشقيه من الودائع والائتمان بشكل كبير على الدولار الأميركي، ولسنوات عديدة، رزحت المصارف تحت مخاطر سعر صرف الدولار قابل للارتفاع في ظل إقتصاد وطني هش وغير منتج. من مخاطر تعدد سعر الصرف هو أن ٢٪ من الودائع مدولرة وهناك / ١٥ / مليار دولار تـوظيـفـات فـي سندات الـيـوروبـنـدز (Eurobonds) إضافة إلى عمليات مبادلة سواب بين توظيفات بالعملة اللبنانية وتوظيفات بالعملة الأجنبية والرساميل المجمعة والمقومة بالعملة اللبنانية. كـمـا أن لـتـعـدد أسعار الصرف أثاراً سلبية على الصعيد الخارجي، فذلك يـرفـع مـن الـمـخـاطـر على قطاع التجارة والأعمال، ويؤدي إلى هروب الرساميل بالعملات الأجنبية وبالتالي إنخفاض في نسبة الإستثمارات. أما داخلياً، فإن تعدد أسعار الصرف يقلص القدرة الشرائية للمواطنين بحيث تلغى الطبقة الوسطى وتتساوى بالفقيرة، وترتفع معدلات البطالة. مما يؤثر سلباً على كافة المصالح لاسيما الإنتاجية منها.

وهنا يطرح التساؤل حول المرجع الصالح التحديد سعر الصرف الرسمي لليرة اللبنانية هل هو المصرف المركزي أم السلطة التشريعية؟

ثانياً: المرجع القانوني الصالح لتحديد عر الصرف الرسمي لليرة اللبنانية

كثيراً ما نسمع بتعبير «السعر الرسمي لصرف الليرة المحدد من قبل مصرف لبنان»، اي المقصود به سعر الصرف الـ / ١٥٠٧ / لليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي الواحد لا بد من الإشارة إلى أن هذا التعبير هو إصطلاحي فعلي لا قانوني، إذ أن المصرف المركزي ليس المرجع الصالح لتحديد سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل العملة الأجنبية كما سنوضح فيما يلي.

إن سعر الصرف هو السعر النسبي لعملة بلد ما مقارنة بعملة بلد آخر، فأتت النصوص القانونية، وتحديداً المادة / ٤٧ / من قانون النقد والتسليف لتمنح مصرف لبنان صلاحية حصرية لإصدار النقد الوطني، دون ذكر أي نص واضح مباشر وصريح وكافٍ للإجازة للمصرف المركزي التحديد سعر النقد الوطني مقابل العملات الأجنبية، فلم يتناول قانون النقد والتسليف مباشرة هذا الموضوع، بإستثناء المادة الثانية منه، التي تنص على أن القانون هو الذي يحدد قيمة الليرة اللبنانية بالذهب الخالص، أضف إلى ذلك، المادة / ٢٢٩ / المعطوفة على المادة / ٢ / من قانون النقد والتسليف، التي تعتبر السند القانوني لتحديد سعر الصرف في لبنان، فإنها تنص على سعر انتقالي لليرة اللبنانية كما هي لتحديد سعر الصرف».

بالعودة إلى المبادئ العامة الدستورية ولاسيما الفقرة (و) من مقدمة الدستور، نجد أنها تنص على أن النظام الاقتصادي الليبرالي الحر يكفل المبادرة الفردية، لكن ليس هناك مرتكز نهائي وواضح وصريح، يخول مصرف لبنان تحديد سعر صرف الليرة. لذلك، وجدت أسعار مختلفة لليرة، أبرزها سعر التعامل الحر في السوق، والذي تخطي سعر الـ ٢٠ الف ليرة الدولار يقابله سعر رسمي محدد بـ / ١٥٠٧ / ليرة، وسعر مصرفتي بـ / ۳۹۰۰ / ليرة، إلى جانب دولار «منضة صيرفة» المحددة من قبل مصرف لبنان.

كـمـا أن الـمـادة / ٧٠ / من قانون النقد والتسليف وإنشاء المصرف المركزي التي تتعلق بسلطة مصرف لبنان في الحفاظ على سلامة النقد اللبناني وعلى الإستقرار الإقتصادي وسلامة أوضاع النظام المصرفـي وتأمين ثبات القطع عبر شراء وبيع الذهب والعملات الأجنبية، إذ لا يوجد أيه أحكام أو سند قانوني يبرر ويجيز لمصرف لبنان صلاحية واختصاص تحديد سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل العملات الأجنبية، لكنه بهدف الحفاظ على الإستقرار وعلى سلامة النقد الوطني يجب أن يوازي بين العرض والطلب على العملات الأجنبية في السوق، وذلك وفقاً للمهام الممنوحة له بموجب قانون النقد والتسليف.

إن سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل العملات الأجنبية الأخرى يحدد إما وفقا لقاعدة العرض والطلب، وإما وفقاً لأحكام المادة / ٢٢٩ / من قانون النقد والتسليف التي تنص على «سعر قانوني لليرة اللبنانية» وبالتالي فإن تحديد سعر الصرف يدخل في الإطار التشريعي وليس في الإطار التنظيمي أي أن تحديد سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي (أو أية عملة أجنبية أخرى) يحدد بموجب قانون صادر عن مجلس النواب. وهـذا مـا أكـدت عليـه إستشارة صادرة عن هيئة التشريع والإستشارات في وزارة العدل بتاريخ ١٩٨٥/١٠/٩ تحت الرقم ۸۸۱/١٩٨٥ والتي جاء فيها ما يلي:

«وتجدر الاشارة هنا إلى أن تحديد سعر قانوني جديد لليرة يستوجب تدخل المشترع كما نصت المواد ٢ و ٢٢٩ من قانون النقد والمادة الأولى من القانون المنشور بالمرسوم / ٦١٠٥ / ذاته …. إذ أن تحديد سعر الليرة يدخل في النطاق التشريعي وليس في دائرة التنظيم، من هنا ، وفي ظل عدم صدور قانون يحدد سعر الصرف، فإن سعر الصرف لليرة اللبنانية بمقابل العملات الأجنبية يحدده سوق العرض والطلب لا المصرف المركزي، بقيت الليرة اللبنانية بدون سعر قانوني ، لا نهائي ولا انتقالي ، ولا يحدد سعرها اليوم سوى القوة الشرائية التي يحكمها العرض والطلب».

فهذه الإستشارة أعطت تعريفاً للسعر القانوني لليرة اللبنانية على له «هو السعر الذي يحدده القانون في معادلة الليرة اللبنانية بالنسبة للذهب أو الدولار وسائر العملات الاجنبية» ، وخلصت أنه لا سعر قانوني لليرة في لبنان وبالتالي يبقى سعر الصرف المعتمد في السوق على أساس العرض والطلب.

وأيضاً الذي يحدد هذا السعر هو عمليات الصرافة في السوق الشرعي للصرافين الرسميين المعتمدين وفقاً للأصول المنصوص عنها في القانون رقم / ٣٤٧ / تاريخ ٦/۸/۲۰۰۱ (قانون تنظيم مهنة الصرافة) وليس في السوق السوداء لأن هذه السوق تعتمد في أغلبيتها على مضاربات غير مشروعة على العملات دون أية رقابة أو ضوابط. بالإضافة إلى ذلك، لم يصدر لغاية تاريخه أي تشريع خاص يحدد صراحة قيمة الليرة في مقابل الدولار أو غيرها من العملات الأجنبية المتعامل بها في لبنان لإتخاذه كأساس لإحتساب سعر الصرف الرسمي للتعامل بالعملة الوطنية. تشير بعض الآراء القانونية» إلى أن القانون رقم ۲۰۲۰/۱۹۳ قانون (الدولار الطالبي) الذي ألزم المصارف اللبنانية صرف مبلغ عشرة آلاف دولار أميركي للطلاب الجامعيين في الخارج من حساباتهم أو حسابات أوليائهم وذلك بالعملة الأجنبية أو بالعملة الوطنية وفق سعر الصرف الرسمي للدولار والذي حدده بـ / ١٥١٥ / ل.ل. ، يعتبر بمثابة إقرار تشريعي غير مباشر بسعر الصرف الرسمي للدولار الأميركي مقابل العملة الوطنية، لاسيما وأن المشترع لم يذكر في القانون المذكور ما يفيد بوجود سعر صرف رسمي آخر. ولكن تبقى هذه الآراء غير مرجحة، خصيصاً في ظل تباين الأحكام والقرارات القضائية في تحديد سعر الصرف

ثالثاً: الأحكام القضائية فيما خص تحديد سعر الصرف ألقت الأزمة النقدية الراهنة بعد تدهور سعر صرف العملة الوطنية في مقابل الدولار الأميركي بظلالها على كاهل القضاء في ظل تعاظم عدد الدعاوى المقدمة أمامه والمتعلقة بتحديد سعر الصرف الذي على أساسه سوف يتم الإيفاء. إن كان وفقاً لسعر الصرف الرسمي المحدد من قبل مصرف لبنان بـ ١٥٠٧ ل.ل. للدولار الواحد، أم وفقاً لسعر المنصة التي أنشأها مصرف لبنان SAYRAFA، والذي يعتبر السعر الأقرب لسعر السوق. وفـي الـواقـع صـدرت أحـكـام وقرارات قضائية عدة في هذا الصدد، نذكر منها القرار رقم ٦٨٧/٢٠۲٠ الصادر عن محكمة الإستثناف في بيروت والذي جاء فيه:

«إلزام المدعى عليهم الورثة المذكورين، كل بحسب نسبة. حصته من التركة وفقاً القرار حصر الإرث، بتسديد أتعاب المحامي المدعي الأستاذ الياس داوود درويش عقل البالغة عشرة آلاف دولار اميركي، أو ما يعادله بالعملة الوطنية بتاريخ الدفع الفعلي وفقاً لمتوسط السعر المحدد للدولار الأميركي بمقابل الليرة اللبنانية على المنصة الإلكترونية لعمليات الصرافة والتداول الموضوعة من مصرف لبنان، وذلك عطفاً على إتفاقية الأتعاب تاريخ ۱۸/۱/۲۰۱۸».

وفـي الإتـجـاه عـيـنـه صـدر الـقـرار رقم ۷۹۷/۲۰۲۰ تاریخ ٩/۱۲/۲۰۲۰ عن محكمة الإستئناف في بيروت، ألزمت بموجبه المدعى عليهم بتسديد أتعاب المحامي المدعي بالدولار الاميركي، أو ما يعادله بالعملة الوطنية بتاريخ الدفع الفعلي وفقاً لمتوسط السعر المحدد للدولار الأميركي بمقابل الليرة اللبنانية على المنصة الإلكترونية لعمليات الصرافة والتداول الموضوعة من مصرف لبنان.

إلا أنه وفي إتجاه معاكس جاء في معرض الحكم الصادر مؤخراً عن رئيس دائرة التنفيذ في المتن، والذي قضى بأن السعر الرسمي المحدد من قبل مصرف لبنان بـ / ١٥٠٧ /، وإن كان لا يعبر عن الواقع الحقيقي للإقتصاد اللبناني، إلا أن باقي أسعار الصرف تفتقد للمشروعية القانونية:

«وحيث وإن كان السعر الرسمي المحدد بحسب نشرات مصرف لبنان بمبلغ / ١٥۰۷ / ل.ل لا يعبر عن الواقع الحقيقي للإقتصاد اللبناني، يبقى أن سائر الأسعار المتداولة تفتقد من حيث الظاهر إلى المشروعية القانونية والتبرير القانوني السليم في ضوء الوضع التشريعي الحالي».

كما أنه وفقاً للحكم الصادر عن رئيسة دائرة التنفيذ في بيروت القاضية مريانا عناني عام ٢٠٢٠، لا يوجد سعر صرف رسمي وقانوني حتى الآن، فالسعر الموجود على نشرة مصرف لبنان هو المعتمد ، فقد قضي القرار المذكور بما يلي: «وحيث استناداً إلى واقـع الـحـال والأوراق، التي تظهر بشكل واضح أن سعر صرف الدولار الأميركي ما زال وفقاً لنشرة مصرف لبنان محدداً على السعر الرسمي، وهو مقر به من قبل المشرع صاحب الاختصاص الأصلي في هذا المجال، وأنه لم يحصل أي تدخل تشريعي لتاريخه عدل هذا السعر، أو حزره ليتناسب مع سعر السوق الحرة، وفي ظل عدم وجود مؤشر قانوني بديل يصح اعتماده في المعاملات الرسمية والقضائية، يغدو أي سعر آخر لليرة اللبنانية غير مستجمع لشروط المنازعة الجدية تجاه السعر الرسمي المذكور».

إن هذا التباين في الأحكام والقرارات القضائية يؤكد على أنه هناك مشكلة حقيقية في تحديد السعر الواجب إتباعه في تعاملاتنا القانونية والعقدية ، فهذا التقلب في أسعار الصرف لاسيما في ظل عدم توحيد الإجتهاد ينعكس سلباً على حياتنا اليومية وعلى أعمالنا، يؤدي حتماً إلى فوضى وعدم إستقرار إلى حين صدور قانون يوحد أسعار الصرف. فتوحيد سعر الصرف مطلب أساسي من مطالب صندوق النقد الدولي، إضافة إلى قـانـون الـكـابيتال كونترول الذي يعد من الشروط المتلازمة مع توحيد سعر الصرف، لا بل هو باب أساسي لهذا التوحيد.

هذا ولاسيما وأن صندوق النقد الدولي وضع مساراً واضحاً للبنان مقابل برنامج إنقاذي، يتضمن أربع نقاط من بينها توحيد سعر صرف الليرة وإستعادة الملاءة المالية العامة وسـلامـة الـنـظـام الـمـالـي، لأن تـوحـيـد سعر الصرف بنظر الصندوق أقل كلفة على الإقتصاد من الطريقة المتدرجة، فبالنسبة إلى صندوق النقد إن تحرير سعر الصرف يساهم في حماية الإحتياطيات الدولية للبنان مع الحد من السعي وراء الربح والفساد».

وفي دراسة لمعهد التمويل الدولي، لحظت وجود / ١٢ / دولة حول العالم، تشهد حالياً ظاهرة تعدد أسعار الصرف، ما بين سعر صرف فعلي في السوق الموازية، وأسعار صرف رسمية متعددة، يتم استعمالها لغايات مختلفة كإحتساب الضرائب ودعـم الاسـتـيـراد وغيـرهـا، لائـحـة الـدول هـذه شملت كل من الدول الـتـالـيـة لـبـنـان وتركمانستان وإيران وسوريا والجزائر والأرجـنـتـيـن ونـيـجـيـريا وزيمبابوي وأنغولا ومصر والسودان وأوزبكستان.

وحسب التقرير، فالمسألة المشتركة بين كل هذه الدول هي فشلها في تطبيق سنة الإصلاحات المالية الشاملة، التي تكفل تناسق البرامج الإقتصادية مع أنظمة القطع والسياسات النقدية، بالإضافة إلى فقدان الثقة بالعملة المحلية، وغياب الإستقرار السياسي والمالي.

فهل يمكن السيطرة على التقلبات في الأسعار اليومية بدون رفع حدة التضخـم فـي لـبـنـان ؟ وهـل لـبـنـان جـاهـز لتوحيد سعر الصرف ؟ وهل أن إصدار نص قانوني كاف؟

 

 

Comments are closed.