«من إغتراب التطور إلى إغتراب الهروب»

بقلم: د. فؤاد زمكحل

إن موضوع الإغتراب اللبناني ليس جديداً، وقد بدأ منذ عقود ومئات السنوات، ويُمكن أن نعود به إلى زمن الفينقيين، لكن الإغتراب اللبناني الحاصل في السنوات الأخيرة، مقلق وخطر لأنه يتحوّل من إغتراب التطوّر إلى إغتراب الهروب المخيف.

لقد إتجهت أول موجة من الإغتراب اللبناني إلى بلدان أميركا اللاتينية، وقد أبحر أجدادنا في البواخر، ولم يكونوا يُدركون أين سيحطون، وكان هدفهم إكتشاف قارات جديدة، وأسواق عمل وخصوصاً تطوير أشغالهم وإزدهار حياتهم.

ثم إتجهوا إلى قارة إفريقيا، عندما كانت غير مستقرة ولا نامية، وإستقروا فيها وسط الحروب المتعدّدة، وجاهدوا وثابروا وعملوا ليلاً ونهاراً حتى إستطاعوا شراء شركات كانت تهرب من الصراعات، فطوّروا شركاتهم في كل المجالات، وساهموا بإنماء هذه القارة.

أما الدفعة الثالثة المهمة في تاريخ الهجرة اللبنانية، فقد توجّهت إلى بلدان الشرق الأوسط، وخصوصاً إلى البلدان النفطية والغازية، فساهموا في تحديثها وإنمائها وإعمارها. وهذه الإقتصادات والشركات، تطورت ونجحت من خلالهم.

إضافة إلى ذلك، هناك موجات عدّة إتّجهت إلى أميركا وأُستراليا، وأوروبا، وإندمجت في كل هذه المجتمعات، ونجحت في كل القطاعات. لا يوجد قرية في العالم تخلو من وجود لبناني أو شخص من أصل لبناني. لذا إن ثروتنا الحقيقية تكمن بهؤلاء الـ١٥ مليوناً، الموزعين حول الكرة الأرضية، والذين يدعمون الـ٥ ملايين، الموجودين في أرض الوطن، حيث يُعانون القهر والعذاب والذل.

إن ثروتنا النفطية الحقيقية، ليست موجودة في صلب البحار، أو في الصفقات السياسية لتحديد الخطوط الحدودية، لكن ثروتنا الحقيقية تكمن بالموارد البشرية الناجحة والمنتشرة حول العالم.

فالإغتراب اللبناني ليس جديداً في لبنان لا بل بالعكس، فقد كان ركناً أساسياً للإستثمار والنمو والنهوض وتدفُّق العملات الصعبة. فالمغتربون منذ عقود عدة كانوا يغادرون أرض الوطن للتطور والخبرة والإكتشافات الجديدة والإبتكار وتصدير ليس فقط سلعهم وحسب، لكن أيضاً نجاحاتهم وأفكارهم الخلاّقة، وروحهم الريادية. فتحليقهُم حول العالم كان لتحسين نسبة عيشهم، ومضاعفة مداخيلهم، وتوفير لقمة العيش لعائلاتهم.

أما حالة نفسية المغتربين الجدد فتحوّلت من التطوّر والنمو إلى الهروب فقط من حبسنا الكبير، ومن اليأس والقهر والحرمان، فحلم لبنان المنصّة الأساسية وأرض العودة، دُمّرت ودُمّر معها الأمل والأحلام. وقد أصبح المغترب اللبناني، غير باحث عن الدول النامية أو عن فرص التطوّر، لكنه بات يبحث فقط عن أي أرض تقبله، وأي دولة تؤمّن له تأشيرة الدخول (فيزا) في حال إستحصل على باسبور بعد التسوّل والإنتظار أكثر من سنة. فهؤلاء المغتربون لم يعد إهتمامهم محصوراً في البحث عن أرض تؤمّن لهم لقمة العيش، لكنهم باتوا يبحثون عن أي أرض عوضاً عن الأرض التي طعنتهم، وجرّتهم في الوحول، وأجبرتهم على التسوّل لتأمين أقل من حقوقهم الإنسانية والبديهية.

فلبنان الذي كان دائماً منصّة المغادرة والعودة، أصبح اليوم «منجنيقاً» لشبابنا لـ «روحة بلا رجعة»، بحثاً عن حياة كريمة، والعيش بكرامة وإحترام الإنسان.

في ظل هذا الجو السوداوي، علينا أن نكون واقعيين ونقبل هذا الإغتراب الجديد، الذي يبحث عن الإحترام حتى قبل الإنماء والتطور، فعوضاً عن رفع الشعارات الوهمية، للإبقاء على شبابنا في لبنان، وعوضاً عن حجز جوازاتهم لمنعهم من الهروب للعيش الكريم، علينا ألاّ نتخوّف من مغادرتهم ونتكل عليهم، بأن يحملوا بيد، وبفخر، هويتهم اللبنانية، وباليد الأخرى علم الأرز الذي سيزرعونه في كل أركان العالم. ونتمنى عليهم أن يبنوا لبنان الصغير أينما ذهبوا، وأن يدعموا أهلهم المجاهدين في أرضهم الأم، فالحفاظ على لبنان يبدأ من الحفاظ على المغتربين وهوّيتهم وحبّهم للوطن. فعلينا أن نُحوّل مجدّداً الإغتراب الجديد المتمثل بالهروب من هذا الكابوس إلى الإحترام البنّاء التطويري والإستثماري الذي بنينا به قارات وبلداناً وإقتصادات، وخصوصاً حمينا به لبنان.

 

 

 

Comments are closed.