مؤشرات مقلقة تنذر بموجة هجرة كبيرة من لبنان

اصدر مرصد الازمة في الجامعة الأميركية في بيروت تـقـريـراً جـديـداً تـنـاول فيه المؤشرات المقلقة للهجرة وفيه:

فـي خـضـم الازمـات الـمـشـتـعـلـة فـي لبنان وتداعياتها اليومية على كل جوانب العيش، تؤسس الازمـة اللبنانية الى عـواقـب طويلة الامد عبر الهجرة الكثيفة المتوقعة والتي بدأت دلالاتها بالظهور. فيشهد لبنان منذ اشهر ارتفاعاً ملحوظاً في معدلات الهجرة والساعين اليها يجعلنا نـدخـل فـي بـدايـة مـوجـة هجرة جماعية.وتـحـصـل الـهـجـرات الـجـمـاعـيـة مـن الـبـلـدان – الساقطة في ازمات اقتصادية عميقة حيث تشكل الازمات عوامل ضاغطة على السكان للرحيل بحثا عن امن وامـان وسبل العيش. فعلى سبيل المثال وضعت فنزويلا حالياً من ضمن ازمات النزوح العالمية من قبل المفوضية السامية للامم المتحدة لشؤون اللاجئين حيث يقدر اعـداد المهاجرين القسريين من جراء الازمة الفنزويلية بحوالي ٤ ملايين نسمة نزحوا الى بلدان مجاورة من جراء التدهور الاقتصادي والـمـعـيـشـي فـي بـلـدهـم. كـذلـك الـحـال في زيمبابوي حيث يقدر عدد المهاجرين منها الى جنوب أفريقيا بسبب الازمة الاقتصادية والمعيشية الضاربة منذ التسعينيات بحوالي ٣ ملايين نسمة. وشهد اليونان هجرة كبيرة من جراء ازمته الاقتصادية العميقة وصلت الى ٣٩٧،٠٠٠ نسمة في سنوات قليلة بين ٢٠١٠ و٢٠١٣.

اما في لبنان، فهناك ٣ مؤشرات مقلقة فيما يتعلق بدخولنا في موجة هجرة جماعية والتي من المتوقع ان تمتد لسنوات:

اولاً: ارتـفـاع فـرص الـهـجـرة عـنـد الشباب اللبناني حيث اشار ٧٧٪ منهم انهم يفكرون بالهجرة ويـسـعـون الـيـهـا، وهـذه النسبة هي الاعلى بين كل البلدان العربية حسب تقرير «استطلاع رأي الشباب العربي» الصادر العام الماضي. ان السعي للـهـجـرة عـنـد الاكـثـريـة الساحقة من الشباب اللبناني هو نتيجة طبيعية لانحسار فرص العمل الكريم حيث يقدر البنك الدولي ان شخصاً من كل خمسة فقد وظيفته منذ خريف الـ ٢٠١٩ وان ٦١٪ من الشركات في لبنان قلصت موظفيها الثابتين بمعدل ٤٣٪.

ثـانـيـاً: الـهـجـرة الكثيفة للمتخصصين والمهنيين خاصة من العاملين والعاملات في القطاع الصحي كأطباء وممرضين، وفي القطاع التعليمي من اساتذة جامعيين ومدرسيين بحثاً عن ظروف عمل ودخـل افضل. فعلى سبيل المثال قدرت نقابة الممرضات والممرضين هجرة ١٦٠٠ مـمـرض ومـمـرضـة مـنـذ ٢٠١٩.

كذلك افـراد الجسم التعليمي الـذي هاجر المئات منهم الى دول الخليج وشمال اميركا، فـفـي الـجـامـعـة الامـيـركـيـة فـي بـيـروت وحدها سُجل خلال عام رحيل ١٩٠ استاذا يشكلون حوالي ١٥٪ من الجسم التعليمي.

ثالثاً: توقع طول امد الازمة اللبنانية، فالبنك الدولي يقدر ان لبنان يحتاج بأحسن الاحوال الى ١٢ عاماً ليعود الى مستويات الناتج المحلي التي كانت في عام ٢٠١٧ وبأسوأ الاحوال الى عاماً. ومع غياب القرار السياسي بمقاربة جدية للازمة اللبنانية مما يوشي بتعمد الانهيار، فمن غير المستبعد ان تتلاشى مؤسسات الدولة أكثر وأكثر والسقوط في دوامة مميتة تمتد لعـقـديـن مـن الـزمـن، والـذي سيشكل عاملاً ضاغطاً على مئات الآلاف للرحيل عن وطنهم سعياً للاستثمار والعمل والدراسة والتقاعد. اذاً اضـفـنـا الـى هـذه الـمـؤشـرات الـثـلاثـة «المحلية» عاملاً آخر هو الحاجة المتزايدة الى يد عاملة واصحاب اختصاص وفئات شابة في عدد كبير من الدول الاكثر تقدماً في العالم والـتـي تـشـهـد انـخـفـاضـاً فـي مـعـدلات النمو السكاني وزيادة في نسبة المسنين، فيمكننا استنتاج موجة كبيرة من هجرة اللبنانيين في الاعوام القادمة.

ان تأثيرات موجة الهجرة الثالثة المتوقعة ستكون وخيمة عبر خسارة يصعب تعويضها لـلـرأسـمـال الـبـشـري الـلـبـنـانـي وهـو الـمـدمـاك الاسـاس فـي اعـادة بـنـاء الـدولـة والـمـجـتـمع والاقتصاد.

في الاطار نفسه، ذكرت مصادر مطلعة انه في الأشهر الثمانية الأولى من السنة الجارية كان المعدل الأسبوعي لطلبات الاستحصال على جواز سفر يتجاوز ٧ آلاف طلب مقارنة مع ٤ آلاف طلب في الفترة نفسها من ٢٠٢٠. الطلب على جوازات السفر مؤشّر أساسي على تزايد رغبة اللبنانيين في الهجرة هرباً من تدهور الأوضاع.

بحسب إحصاءات الأمن العام اللبناني، بلغ عدد جوازات السفر المصدرة من مطلع عام ٢٠٢١ ولغاية نهاية آب/أغسطس نحو ٢٦٠ ألف جواز سفر، مقارنة مع نحو ١٤٢ ألف جواز سفر في الفترة نفسها من عام ٢٠٢٠، أي بزيادة نسبتها ٨٢٪. ومن الدّلالات المهمة أيضاً أن فئات الجوازات المصدرة هي من الفئات الأطول زمنياً، أي فئة العشر سنوات والخمس سنوات على حساب تراجع الفئات الأقل مدى زمني مثل فئة السنة الواحدة وفئة الثلاث سنوات.

ففي منتصف عام ٢٠١٨ صدر قانون الموازنة الذي يتيح للأمن العام اللبناني إصدار جوازات سفر تمتد لعشر سنوات. إلا أنه رغم ذلك، لم يسجّل طلباً كثيفاً على هذه الفئة، بل بقيت حصّة الجوازات من فئة السنة الواحدة هي الطاغية، إذ بلغت حصّتها من مجموع الجوازات المصدرة لغاية نهاية آب/أغسطس ٢٠١٨ نحو ٦٠٪ مقارنة مع ٠،٩٪ لفئة العشر سنوات.

وفي عام ٢٠١٩ بدأت تنخفض حصّة الفئة الزمنية الأقصر (سنة واحدة) في مقابل ازدياد الطلب على الفئات ذات المدى الزمني الأطول. واستمر هذا المنحى إلى أن تراجعت حصّة فئة السنة الواحدة إلى ٧٪ في نهاية آب/أغسطس ٢٠٢١ مقابل ٣١٪ لفئة العشر سنوات و٣٠٪ لفئة الخمس سنوات.

الفئات الزمنية لجوازات السفر مرتبطة بجذور الوضع الاقتصادي والاجتماعي. لم يكن هناك طلب كبير على الفئات ذات المدى الزمني الأطول لأن المجتمع اللبناني كان منخرطاً في النمط الاستهلاكي السريع المدعوم بسعر صرف ثابت. هذا الأمر أتاح له السفر إلى الخارج سنوياً وبكلفة متدنية وبعضها مموّل عبر الاقتراض. لذا، كان الخيار الأمثل إصدار جواز سفر رخيص لمدة سنة واحدة أو ثلاث سنوات وهي مدّة كافية لتغطية الهدف الترفيهي. بينما إصدار جواز سفر لمدة زمنية طويلة مثل الخمس سنوات أو العشر سنوات، وبكلفة أعلى نسبياً، لا يتلاءم مع هذا النمط ويزيد كلفة الترفيه على الطبقات الوسطى والشرائح القريبة منها. فالحصول على جواز سفر ذو صلاحية أطول يرتبط بشرائح أكثر قدرة أو هي أصلاً مغتربة، أو لديها رغبة في الهجرة. حالياً، يغلب هدف الهجرة على الأهداف الأخرى بسبب الأزمة التي بدأت تداعياتها تصبح كارثية على الحاضر والمستقبل. القلق من تفشي البطالة وانخفاض القدرة الشرائية بعد انخفاض قيمة الليرة مقابل الدولار واحتمالات انتشار العنف هي العوامل التي تحفّز الرغبة في الهجرة وترجمتها في جوازات السفر ذات الصلاحية الزمنية الأطول.

تدهور نوعية الحياة أمر مقلق جداً. هناك مريض اضطر أن يتعامل مع أربعة أطباء سرطان مختلفين هاجروا جميعاً في أوقات مختلفة. انقطاع الأدوية من السوق ليس حدثاً عابراً.

تدني مستويات التغذية بالتيار الكهربائي من مؤسسة كهرباء لبنان ومن مولدات الأحياء معاً إلى حدود العتمة. تقنين البنزين والوقوف طوابير طويلة للحصول على كمية تكفي بضعة أيام للانتقال من المنزل إلى العمل. تقطع الاتصالات والانترنت. انقطاع المياه. نشوء أسواق سوداء لكل شيء، خسارة الوظيفة، خسارة القوة الشرائية… كل ذلك يحفّز الرغبة في الهجرة بحثاً عن مناطق عيش أكثر استقراراً وفيها وظائف ذات دخل معقول وخدمات عامة متواصلة.

ارتفاع الطلب على الجوازات بدأ يظهر في ٢٠٢١ لأنه في السنة السابقة كان هناك مانعاً أساسياً من الهجرة يتعلق بجائحة انتشار كورونا وإقفال العديد من البلدان، فضلاً عن أن تسارع الأزمة بدأ يصبح أكثر وضوحاً بعد انفجار ٤ آب/أغسطس ٢٠٢٠، وعدم قدرة السلطة على تشكيل حكومة ما أغلق طاقة الأمل بأن الإنقاذ سيكون وشيكاً ومعه اتّضح أكثر أن مستقبل لبنان بلا أفق. البحث عن فرص ارتقاء اجتماعي خارج تداعيات الأزمة اللبنانية التي توقع لها البنك الدولي أن تستمر لما يزيد عن عقد أو حتى عقدين من الزمن، هو البديل.

إن الهجرة بحثاً عن عمل أو عن استقرار سياسي واجتماعي كانت إحدى أهم سمات تاريخ إنشاء لبنان. يقول أسعد الأتات (ملحق رأس المال ــ الاثنين ١٤ كانون الثاني/يناير ٢٠١٩) إن التقديرات حول أعداد المهاجرين بعد عام ١٩٧٥ تقاطعت بغالبيتها عند رقم ٩٠٠ ألف مهاجر خلال السنوات المُمتدة بين عامي ١٩٧٥ و١٩٩٠.

 

 

 

Comments are closed.