بات ممجوجاً ومعيباً تكرار التأكيد على وجوب أن تكشف الحكومة عن كافة الديون المترتبة عليها، والالتزامات الناجمة عن خسائر مصرف لبنان، وتحدد بالتالي حجم الخسائر وكيفية توزيعها، قبل الولوج في مفاوضات مع صندوق النقد الدولي للاستحصال منه ومن غيره من المؤسسات الدولية، على قروض ميسرة. لكن مجلس الوزراء عاجزٌ عن الاجتماع منذ أسابيع، وتعنت المواقف غير المراعية لواقع الناس ولخطورة الأزمة التي تطبق على البلد، يهدد ما تبقى من مقومات الصمود. مع ذلك، ولأننا “محكومون بالأمل” والعمل، لا بدّ من توضيح بعض الحقائق والأرقام، علّها تسهم في تعبيد الطريق نحو الحد من الخسائر وإرساء أسس سليمة للنهوض بالبلد واقتصاده.
ان إجمالي الدين العام هو مجموع الدين المسجل على الخزينة في وزارة المالية، ويسمى الدين الحكومي، مضافة إليه فجوة مصرف لبنان.
في أواسط العام ١٩٧٦، كان حجم الدين العام الحكومي صفراً، وفق ما ورد في خطاب الوداع للرئيس الراحل سليمان فرنجية بتاريخ ١٩ أيلول/سبتمبر ١٩٧٦، وكانت حسابات مصرف لبنان متوازنة مع فائض احتياطات حقيقية من الذهب والعملات الأجنبية.
في نهاية العام ١٩٩٠، كان حجم الدين العام أقل من ملياري دولار، معظمه بالليرة اللبنانية، دفع في خلال الثمانينات، لإعادة تأهيل الجيش اللبناني، وكان احتياطي الذهب ولا يزال ٩،٢٢٢،٣٤١ أونصة هي قرشنا الأبيض المدخر آنذاك ليومنا الأسود.
أما في نهاية العام ٢٠٢١، فسيكون الدين العام الحكومي، بحدود ٩٦ ألف مليار ليرة لبنانية، وقرابة ٣٩ مليار دولار اميركي موزعة ما بين:
٠ ٣١،٣١٢ مليار دولار قيمة اليوروبوندز الاسمية (منها ٤،٥٩٣ مليار سندات استحقت خلال عامي ٢٠٢٠ و٢٠٢١ ولم تسدد قيمتها).
٠ ٤،٤ مليارات دولار فوائد (كوبونات) غير مدفوعة، استحقت على محفظة اليوروبوندز خلال عامي ٢٠٢٠ و ٢٠٢١.
٠ نحو ١،٣ مليار دولار فوائد تأخير على السندات والكوبونات التي استحقت خلال عامي ٢٠٢٠ و٢٠٢١ ولم تسدد قيمتها.
٠ نحو ٢ مليار دولار قروض طويلة الآجال ممنوحة من مؤسسات دولية، بفوائد ميسرة.
تضاف إلى هذه المبالغ المترتبة على الخزينة، فجوةٌ في حسابات مصرف لبنان بالدولار لا تقل راهناً عن ٦٣ ملياراً، وهي خسائره التي تفاقمت من دون حسيب ولا رقيب، وأخفيت في الدفاتر عبر السنوات وكأنها من أسرار الآلهة. ولم يتجرأ عن التحذير من مخاطرها إلا قلةٌ من السياسيين والاقتصاديين والإعلاميين، لي شرفٌ أن أكون من بينهم، بقوا أصواتاً صارخة في البرية، وخون واتهم كل من طرح أسئلة في هذا المجال.
جديرٌ بالذكر، أن مسودة التقرير التقييمي المشترك لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي في نيسان/أبريل ٢٠١٦ Financial Sector Assessment Program FSAP استناداً الى حسابات مصرف لبنان، الموقوفة في نهاية ٢٠١٥، كانت أول مستند رسمي يؤشر إلى خطورة الاختلالات في هذه الحسابات. فقد ظهر بأن صافـي احتياطات مصرف لبنان، بعد احتساب موجودات الذهب التي كانت تساوي آنذاك ٩،٨ مليارات دولار، كان سلبياً بنحو ٤،٧ مليار دولار. هذا يعني أن صافـي احتياطي مصرف لبنان من عملات أجنبية، من دون احتساب الذهب، كان بنهاية العام ٢٠١٥ سلبياً بقيمة ١٤،٥ مليار دولار (٤،٧+٩،٨)، غطاها من أموال الناس المودعة في المصارف التي كانت قد أودعت معظمها لدى مصرف لبنان بفوائد مغرية.
حينذاك، وعوض الشروع في تصحيح الوضع، عمد مصرف لبنان إلى الطلب من معدي التقرير عدم نشره بذريعة” المحافظة على الاستقرار”. وفي اوائل العام ٢٠١٧، أصدر صندوق النقد الدولي تقريراً أغفل ذكر حجم الخسائر.
وإمعاناً في تشويه الحقائق والتعمية على الواقع الأليم بغطرسة غير معهودة، بدأت في خلال العام ٢٠١٦ هرطقة ما سمي “هند سات مالية”. تزايد الصافـي السلبي لاحتياطي مصرف لبنان بالعملات الاجنبية من ١٤،٥ مليار دولار في نهاية العام ٢٠١٥ إلى ٦٣ مليار دولار في نهاية العام ٢٠٢١، تغطى من ودائع الناس بالدولار، وتحول إلى خسائر فعلية تضاف إلى دين الخزينة الكبير أصلاً.
من نافلة القول بأن حجم المديونية العامة قد بلغ هذه المستويات الكارثية نتيجة تراكمات على مدى ثلاثين عاماً من سوء الإدارة وعدم الكفاءة والفساد والهدر في مالية الدولة ومؤسساتها العامة. يضاف إليها الزبائنية والريع واللا إنتاجية في الاقتصاد وعدم المساءلة، وتغطية “السماوات بالقبوات”، مما تسبب بانهيارات لم يسبق لها مثيلٌ في العالم منذ العام ١٨٥٧، وفق تقرير البنك الدولي تاريخ ٣١ أيار/مايو ٢٠٢١ بعنوان «لبنان يغرق Lebanon Sinking».
وكانت المنظومة السياسية والمالية التي تكونت في أوائل التسعينات، قد حاولت معالجة الأزمة بحلول ترقيعية استندت بمعظمها إلى القروض، عبر مؤتمرات عقدت في الخارج. فكان باريس ١ في ٢٣ شباط/فبراير ٢٠٠١، وباريس ٢ في ٢٣ تشرين الثاني/نوفمبر ٢٠٠٢، استتبعا في باريس ٣ في ٢٥ كانون الثاني/يناير ٢٠٠٧ عقب حرب تموز/يوليو ٢٠٠٦.
وجاءت الأزمة المالية العالمية في العامين ٢٠٠٨ و ٢٠٠٩ لتطمس حقيقة الوضع المهترئ في لبنان مذاك، فتدفقت المليارات وفاق مجموعها عشرين مليار دولار في فترة أربع سنوات، من ٢٠٠٧ إلى ٢٠١٠. لكن هذه الأموال التي أغدقت عليها الفوائد، ما لبثت أن غادرت لبنان تدريجياً ابتداءً من العام ٢٠١١ مع اندلاع الأحداث في سوريا، وازدادت وتيرة التحويلات إلى الخارج وحجمها عقب احتجاز رئيس الحكومة اللبنانية في الرياض عام ٢٠١٧.
انفجر الوضع على إثر أحداث تشرين الأول/أكتوبر ٢٠١٩ وبدأت الحقائق تتكشف، فطرح التدقيق الجنائي واتخذت الحكومة بتاريخ ٢٦ آذار/مارس ٢٠٢٠ قراراً بإجرائه للتثبت من حقيقة الأرقام ومعرفة كيف هدرت الاموال ومن كانوا المستفيدين. وكان لافتاً أن يتحدث الرئيس الفرنسي في أيلول/سبتمبر ٢٠٢٠ عن Ponzi Scheme لبناني.
إن فجوة مصرف لبنان، أي خسائره المتراكمة عبر السنين، والمخفية في بنود عدة من ميزانيته، خصوصاً ضمن “موجودات أخرى” خلافاً لأصول الشفافية، والتي لا تقل راهناً عن ٦٣ مليار دولار، هي الفارق:
– بين إيداعات المصارف لدى مصرف لبنان بالعملات الأجنبية، التي تفوق راهناً
– ٨٢ مليار دولار، تعود بمعظمها لودائع الناس في المصارف، التي تبلغ اليوم ١٠٤ مليار دولار
– وبين ما أقرضه مصرف لبنان للدولة بموجب سندات يوروبوندز (٥ مليار دولار)
– والرصيد المتبقي هو من الاحتياطي الإلزامي.
ونشير إلى أن ميزانية مصرف لبنان لم تلحظ ديوناً على القطاع العام سوى اكتتاباته باليوروبوندز وبسندات الخزينة بالعملة الوطنية. كما أن دراسة أعدها الدكتور توفيق كسبار في تشرين الأول/أكتوبر ٢٠٢٠ تبين بأن الدولارات التي دفعها مصرف لبنان لشراء الفيول لمصلحة مؤسسة كهرباء لبنان، في خلال فترة السنوات ٢٠٠٩ إلى ٢٠١٩، تبلغ ١٧،٥ مليار دولار استحصل مقابلها من الخزينة على سندات يوروبوندز، سدد قيمتها ليراتٍ لبنانية.
بمعنى آخر، يقدر إجمالي الدين العام (حكومي+ فجوة مصرف لبنان) بحوالي ٩٦ ألف مليار ليرة لبنانية وبنحو ١٠٢ مليار دولار (٣٩+٦٣). ومن المفترض تأكيد هذه الأرقام في الأسابيع المقبلة لتستند إليها الحكومة في خطتها للتعافـي، ولتفاوض صندوق النقد الدولي على أساسها.
بالتالي، يكون مجموع المديونية العامة:
٠ ١٦٦ مليار دولار على أساس ١٥٠٠ ليرة للدولار، لم ينفق منها لإعادة إعمار لبنان، في أواسط التسعينات، سوى ٤ إلى ٥ مليارات دولار
٠ أو ١١٠ مليارات دولار على أساس ١٢ ألف ليرة للدولار
٠ أو ١٠٩ مليارات دولار على أساس ١٣٧٠٠ ليرة للدولار
٠ أو ١٠٨ مليارات دولار على أساس ١٦ ألف ليرة للدولار.
ولأن الثروة الوطنية تتمثل بالثروة العقارية وبالثروة المالية مجتمعتين، فلا بد من التذكير بأن اللبنانيين باعوا من موجوداتهم العقارية في خلال الثلاثين سنة الماضية بما يزيد عن ١٥٠ مليار دولار. بالتالي، تكونت خساراتٌ مالية وعقارية من مصادر متعددة، بنحو ٣٠٠ مليار دولار في ثلاثة عقود، علاوةً عن هجرة أكثر من ٣٠٠ ألف عائلة لبنانية بحثاً عن فرص عمل وعيش كريم.
أما بالنسبة لتوزيع الخسائر بعد تحديد حجمها، وبما أن صندوق النقد الدولي لا يقبل الإقراض إلا بعد تخفيض حجم الدين العام إلى اقل من اجمالي الناتج المحلي مضافةً إليه قيمة الذهب التي تساوي بالأسعار الرائجة قرابة ١٦،٥ مليار دولار، فإن الدين العام المطلوب إبقاؤه في الدفاتر، هو بحدود ٣٩ مليار دولار. بالتالي، يفترض إطفاء الجزء الأكبر من المديونية العامة بما فيها خسائر مصرف لبنان، ضمن خطة الحكومة للتعافـي. وهنا النقاش حول من سيتحمل الخسائر وكيف ستتوزع!!!
في سيناريو سعر صرف الدولار بـ ١٦ ألف ليرة مثلاً:
– يكون قد جرى إفقار معظم الشعب اللبناني بحوالي ٥٨ مليار دولار نتيجة الفارق في سعر الدولار بين ١٥٠٠ و ١٦٠٠٠ ليرة (١٦٦ مليار ١٠٨ مليار)، ويكون مبلغ الدين العام، بعد تخفيض سعر الصرف وتحريره (١٠٨مليارات دولار)، ناجماً عن خسائر مصرف لبنان بنحو ٦٣ مليار دولار، وعن رصيد الدين العام الحكومي (٣٩ مليار دولار+ ٦ مليارات دولار بالعملة الوطنية).
– يكون حجم الخسائر المطلوب شطبها، في إطار خطة التعافي المالي وقبل الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، ٦٩ مليار دولار، ما يوازي حجم خسائر مصرف لبنان زائد قرابة ٦ مليارات من الدين العام الحكومي.
– يكون رصيد الدين العام، قبل الحصول على قروضٍ ميسرة، ٣٩ مليار دولار (أدنى قليلاً من إجمالي الناتج المحلي + قيمة احتياطي الذهب).
بالنسبة لديون القطاع الخاص المتعثرة، إما جرى تسديدها من خلال بيوعات عقارية، وإما عمدت المصارف الى تكوين مؤوناتٍ كافية مقابلها.
أما كيف سيتوزع الجزء المطلوب شطبه من الخسائر، بقيمة ٦٩ مليار دولار، بعد الإبقاء على عاتق الخزينة ٣٩ مليار دولار وبعد تحميل معظم الشعب اللبناني عبء ٥٨ مليار دولار، فبديهيٌ أن تعتمد الخطة الحكومية العدالة والإنصاف على أساس من استفاد أكثر يتحمل أكثر، وهو مبدأ طالبت به رئيسة صندوق النقد الدولي في بيانٍ أصدرته بتاريخ ٩ آب/أغسطس ٢٠٢٠ حول الوضع في لبنان. تحديداً، يفترض أن يتوزع بين المصارف ومصرف لبنان وحاملي اليوروبوندز الآخرين، وأيضاً كبار المودعين بالعملات الأجنبية من خلال إعادة احتساب معدلات الفوائد المرتفعة التي حصلوا عليها، ومع درس إمكانية الاستفادة من إيرادات بعض من موجودات الدولة بعد إجراء مسح شامل لها.
أما محاولات البعض تحويل معظم مدخرات الناس بالدولار الى ليرات لبنانية، فهي اعتداءٌ صارخ على ممتلكاتهم وجنى عمرهم، ومخالفةٌ فاضحة لمقدمة الدستور.
إن هذه الاجراءات المالية والنقدية لن تفي بالغرض إن لم تترافق مع ذهنية جديدة في التعاطي مع قضايا الشأن العام، ركيزتها المساءلة والمحاسبة، ومع البدء الفوري بإصلاحات بنيوية جدية في كافة المجالات، لا سيما السياسية والاقتصادية والمالية والنقدية والمصرفية والحماية الاجتماعية والرعاية الصحية، كما على الصعيدين التربوي والاستشفائي.