تأليف الحكومة في لبنان عكس قراراً خارجياً بهدنة على صعيد الكباش الاقليمي – الاقليمي والاقليمي – الدولي، لئلا يذهب لبنان إلى المزيد من الانهيار، بعدما تبيّن ان المراوحة في الكباش الجاري لن تحمل تغييراً أساسياً في المدى المنظور، بل تثبيت تحوّل لبنان دولة فاشلة على شواطئ البحر المتوسط، مع ما يعني ذلك من مشاكل واضطرابات على ارضه ودول الجوار… مما أدى، بطبيعة الحال، الى ترك قوى السلطة تشكّل حكومتها بعيداً عن أي مطلب للشعب اللبناني، باستثناء غياب الوجوه المستفزّة على نحو مباشر. لكن هذه القوى اعادت تأهيل نفسها عبر هذه الحكومة في الوقت الذي اثارت تنظيمات المجتمع المدني احباطاً لجهة عدم قدرتها على تنظيم نفسها وفرض حضورها في المحطات الكثيرة والخطرة التي توالت منذ ١٧ تشرين الاول/اكتوبر ٢٠١٩ وحتى الآن.
في الواقع ان المجتمع الدولي اخطأ في تقديره ان الانهيارات المتتالية التي حصلت في لبنان على المستويات كافة بسبب الادارة السيئة والفساد واستغلال السلطة…. يمكن ان تؤدي الى ثورة اجتماعية تفرض تغييراً جذرياً على المستوى السياسي.
هذه الرهانات لم تنجح، اذ انهار لبنان كلياً ووقف اللبنانيون في طوابير اذلال امام محطات المحروقات والافران والصيدليات في ظل انقطاع شبه تام للتيار الكهربائي إضافة الى تدهور سعر العملة الوطنية والغلاء الفاحش…. بما دفع شريحة كبيرة من اصحاب الاختصاص والشهادات العليا والخبرات الى الهجرة والرحيل نحو بلدان مختلفة. هكذا تم اجهاض الثورة وعاد ارباب السلطة والفساد للتحكّم بمفاصل الدولة واجهزتها من جديد.
تألفت الحكومة بعد مخاض عسير، مع نواةٍ صلبة لوزراء اختصاص سيتولون التفاوض مع صندوق النقد الدولي، تقابلها نواة صلبة ايضاً لوزراء يتّبعون مرجعياتهم السياسية والحزبية، فرحّبت الدول الغربية بهذه الخطوة مع تأكيدها ان المساعدات ستكون مشروطة بإجراء الاصلاحات الهيكلية المنشودة منذ مؤتمر «سيدر» ومعالجة الوضع الاقتصادي المتدهور.
بمعنى آخر، ان هذه الدول، ورغم تشكيل حكومة، مازالت تعتبر انه لا يمكن اعطاء هذه الطبقة السياسية «شيكاً على بياض» بعد ما شهدته من محاصصات في عملية التشكيل ورغبة دفينة واكيدة في استمرار الواقع السياسي على ما هو عليه.
الدول الصديقة للبنان ستتوقف ملياً عند برنامج الحكومة الذي من المفترض ان يؤمّن التفاوض مع صندوق النقد الدولي، والمهمة اضحت اسهل بعدما أدى الواقع الاليم الذي يعيشه البلد الى تطبيق اهم البنود الاصلاحية في برنامج الصندوق بفعل الامر الواقع، ووضع برنامج اصلاحي شفاف يتجاوز الخلافات والانتقال الى العمل معاً والتعاون بين فريق الحكم لانجاح مهمة الحكومة بوقف الانهيار ووضع اسس الانقاذ الفعلي واجراء الانتخابات النيابية والبلدية والاختيارية ربيع العام المقبل، كما السعي لاعادة التقارب بين لبنان والدول العربية خصوصاً الخليجية منها التي يمكنها ان تقدّم المساعدات الضرورية للبنان.
عوامل عدة بدأت تلعب دوراً ايجابياً في وقف الزحف نحو طبقات جديدة من جهنّم، منها: تسلّم لبنان حقوق السحب الخاصة بمبلغ وصل الى مليار و١٣٥ مليون دولار. البدء في المفاوضات الجدية لاستجرار التيار الكهربائي من الاردن عبر سوريا والغاز الطبيعي من مصر لرفع معدلات التغذية بالتيار، اضافة الى وصول بواخر الفيول العراقي… لكن تبقى التحديات امام حكومة الرئيس نجيب ميقاتي كثيرة، اهمها اعادة الثقة الى القطاع المصرفـي بعد هيكلته ومعالجة ازمة الكهرباء بشفافية كاملة بما يقضي على عمليات السمسرة والنهب والسرقات التي شهدتها وزارة الطاقة وأدت الى تدميرها كلياً، وتوفير الحلول للترهّل الحاصل في مؤسسات واجهزة الدولة وخصخصة المرافق العامة… معها يكون الاستمرار ومن دونها نكون في هدنة مؤقتة قبل ولوج عتبة الانهيار الكامل.