منذ حصول لبنان على استقلاله عام ١٩٤٣، إقتصر دور الدولة اللبنانية بشكل أساس على ضمان الأمن الداخلي والخارجي، والعدالة، وتنفيذ مشاريع الأشغال العامة، والتنمية، بما يعكس محدودية دور الدولة وحيادها في النشاط الاقتصادي والاجتماعي. وقد انعكست هذه الروحية في المالية العامة على مبدأ «دولة محايدة ومالية عامة محايدة»، وتترجمت فوائض في المالية العامة، الى أن بدأ يتزايد دور القطاع العام في الإقتصاد في الستينات، ثم اندلعت حرب لبنان ١٩٧٥-١٩٩٠ وتلتها فترة إعادة الإعمار.. بماذا اتسمت خيارات المالية العامة في لبنان ما قبل مرحلة اعادة الاعمار في التسعينات؟ أي دروس يمكن استخلاصها من الماضي؟ لأي خيارات في المستقبل؟
في الواقع، لقد اعتُبر عام ١٩٦٢ عام التحول من حيث المالية العامة في لبنان: فالموازنة العامة، التي كانت تقليدياً تسجّل فوائض، أصبحت تعاني من عجز للمرة الاولى، وبلغ معدل العجز ١٣،٢٪ من النفقات. منذ عام ١٩٦٢ حتى عام ١٩٧٥، عندما بدأت الحرب في لبنان، كانت جميع الميزانيات تعاني من عجز، باستثناء موازنات الأعوام ١٩٧١ و١٩٧٢ و١٩٧٤ عشية اندلاع حرب ١٩٧٥.
منذ عام ١٩٧٥وحتى اليوم، أصبحت الموازنات اللبنانية المتتالية تعاني من عجز مالي، ليس بسبب الدور المتنامي للقطاع العام في التنمية الاقتصادية، بل بسبب الحرب ثم بسبب فقدان السيطرة على الإنفاق والإيرادات وغياب الإصلاحات الاقتصادية في فترة ما بعد الحرب.
مع تفاقم الحرب عام ١٩٧٨، أصبح من الصعب الحصول على أرقام دقيقة وموثوقة تتعلق بالوضع الاقتصادي العام. وقد توقفت الدولة اللبنانية عن نشر إحصاءات الحسابات القومية، بسبب الأحداث وتوقف عمل العديد من الهيئات والدوائر العامة.
ولوحظ أنّ الإنفاق العام تميز خلال سنوات الحرب بالفوضى وانعدام السيطرة المركزية. خلال تلك الفترة، لم تكن الدولة تعرف بشكل دقيق لا مقدار نفقاتها ولا ناتج إيصالاتها، ولهذا توقفت عن إغلاق حسابات الموازنة من ١٩٧٩ إلى ١٩٩٣.
رغم تراجع وضياع السيطرة على الإيرادات وصعوبة تحصيل الضرائب، لم تبذل الدولة جهوداً كبيرة للحدّ من الإنفاق، إلّا خلال بعض سنوات الحرب الأخيرة، بفضل تشدّد مصرف لبنان حينها في تمويل الخزينة. وقد أدى التطور غير المتكافئ والمتناقض بين الإيرادات والنفقات إلى إطلاق عملية تزايد الاختلال في المالية العامة.
بين عامي ١٩٨٢ و١٩٨٥، زادت النفقات بنسبة ١٧٨٪، فيما زادت الإيرادات بنسبة ٦٥٪ فقط. وبين عامي ١٩٨٦ و١٩٨٨، ارتفعت النفقات بنسبة ٧٠٢٪، كما ارتفعت الإيرادات بنسبة ٢٥٠٪. وبين عامي ١٩٨٨ و١٩٩٠، أي خلال العامين الأخيرين من الحرب، كانت الزيادة في الإنفاق تعادل تقريباً ثلث الزيادة في الإيرادات، من دون تقليص عجز الموازنة.
وتشير تقديرات وزارة المالية إلى استمرار عجز الموازنة خلال المرحلة الجديدة من الحرب، حيث بلغ نحو ٢٨،٥٪ من الإنفاق عام ١٩٧٧، و ٢٧،٨٪ من الإنفاق عام ١٩٧٨، و ٣٨٪ من الإنفاق عام ١٩٨١.
تشير تقارير صندوق النقد الدولي إلى أنّ النمو الذي شهده لبنان بين ١٩٧٩ و١٩٨٠، هو بسبب دخول تدفقات رأس المال أو «المال السياسي» إلى لبنان من خلال دعم دول أجنبية. وقد بدأ النمو يتراجع منذ النصف الثاني من عام ١٩٨١ مع تدهور الوضع الأمني. منذ تلك الفترة، فقدت الدولة السيطرة الكاملة على إيراداتها ونفقاتها، واستند تحليل حالة المالية العامة الى التقديرات والأرقام غير الرسمية.
توقف نشر حسابات الموازنة على النحو الذي أقرّه الدستور وقانون الحسابات العامة استمر من العام ١٩٧٩ حتى ١٩٩٣. إذ اضطرت الدولة إلى اللجوء إلى الديون الخارجية والداخلية لتمويل تطوير المشاريع التي توقف تنفيذها، وبلغ الإنفاق الاستثماري ٢٤٪ من إجمالي الإنفاق عام ١٩٨١، وخصّصت الدولة ٢٢،٢٪ من موازنة ١٩٨٢ للمشاريع الاستثمارية.
وهكذا، من أجل تمويل عجز الميزانية المتزايد في مناخ من التوترات وعدم الاستقرار السياسي والعسكري، أصبح العرض النقدي منذ عام ١٩٨٢ يتجاوز بشكل واضح الاحتياجات الاقتصادية للبلاد. وبدأ العملاء الاقتصاديون في «الهروب» من الليرة اللبنانية نحو العملات الأجنبية، لا سيما منها الدولار الأميركي؛ مما عزز عملية التضخم وانخفاض قيمة العملة الوطنية مقابل العملات الأجنبية. ومن هنا دخل الاقتصاد اللبناني في حلقة مفرغة، حيث ضاعف التضخم عجز الموازنة، وتضاعفت طباعة النقد، وفُقدت الثقة بالعملة الوطنية، وتسارعت دولرة الإقتصاد اللبناني.
وبلغت نفقات الميزانية بين عامي ١٩٨٢ و١٩٨٥ نحو ٦٠ مليار ليرة لبنانية، بينما لم تتجاوز إيرادات الموازنة ١٣،٨ مليار ليرة لبنانية. وبذلك، بلغ العجز التراكمي خلال تلك الفترة ٧٧٪ من إجمالي نفقات الميزانية. في الوقت نفسه، تضاعف الدين العام الداخلي ٤ مرات خلال الفترة نفسها، من ١٤ مليار ليرة لبنانية في نهاية عام ١٩٨٢ إلى حوالى ٥٤،٥ ملياراً في عام ١٩٨٥.
بعد عام ١٩٨٥، وجد لبنان نفسه بلا ميزانية، ولم تعد الحكومة ترسل مشروع الموازنة إلى مجلس النواب على النحو المنصوص عليه في الدستور. في الوقت نفسه، واصلت الدولة الإنفاق على أساس الاعتمادات المنصوص عليها في الموازنة الأخيرة التي صادق عليها مجلس النواب، أي موازنة عام ١٩٨٥. غير أنّ التضخم والانخفاض السريع في قيمة الليرة اللبنانية جعلا هذه الاعتمادات منصوصاً عليها في موازنة عام ١٩٨٥، غير كافية لتغطية نفقات الدولة. ومنذ ذلك الحين، أقرّ البرلمان إمكانية التصويت على قوانين تسليفات إضافية لموازنة عام ١٩٨٥، أو اللجوء إلى طلب سلفات خزينة.
بين عامي ١٩٨٦ و١٩٨٨، مرّ لبنان في ظروف اقتصادية واجتماعية صعبة، وتراجعت قيمة العملة الوطنية أكثر، ووصل معدل التضخم إلى أرقام قياسية تخطّت عام ١٩٨٧ معدل ٤٨٧٪، وكان العام الأصعب على الاقتصاد اللبناني بأكمله، باستثناء القطاع الصناعي البحت الذي كان متقدّماً، ومع زيادة الصادرات بنسبة ٤٧٪ لتصل إلى ٧٠٪ من الإنتاج الصناعي. وأدّت الزيادة في الصادرات وانخفاض الواردات إلى تحسن وضع الميزان التجاري، حيث انخفض العجز التقليدي من ١،٦ مليار دولار عام ١٩٨٦ إلى ١،٣ مليار دولار عام ١٩٨٧. واستمرت الصادرات في الزيادة عام ١٩٨٨ لتبلغ نسبة نمو ٢٦٪، مقارنة بعام ١٩٨٧ و٤٢٪ مقارنة بعام ١٩٨٦، على الرغم من تدهور الوضع الاقتصادي وخصوصاً الوضع النقدي. كان ميزان المدفوعات، الذي كان حتى ذلك الحين فائضاً، باستثناء عام ١٩٧٦ الذي كان يعاني من العجز.
في الوقت نفسه، استمر عجز الموازنة في الزيادة، ولا يزال يتمّ تمويله من خلال زيادة طباعة النقد، وتضخيم الدين العام الداخلي (بالعملة الوطنية). وارتفع عجز الموازنة بشكل مطرد من ٨٢،٢٪ من الإنفاق عام ١٩٨٦ إلى ٨٦٪ من الإنفاق عام ١٩٨٧ و٩٢،٢٪ من الإنفاق عام ١٩٨٨.
واضطرت الدولة، التي لم يكن لديها فعلياً ديون داخلية ومديونية خارجية منخفضة للغاية، إلى اللجوء إلى الاقتراض بكثافة، وفرضت على المصارف إلزامية الاكتتاب بسندات الخزينة على مواردها من الليرة اللبنانية. وبلغت سندات الخزينة لدى المصارف التجارية ما يعادل ٢،٩ مليار دولار عام ١٩٨٢ مقابل ١٥٠ مليوناً عام ١٩٧٧. وانخفض الدين العام الذي زاد من ٥٤،٤٥ مليار ليرة لبنانية عام ١٩٨٥ إلى ٥٢١،٥ مليار ليرة عام ١٩٨٨، إلى ما يعادل ١١٤ مليون دولار في عام ١٩٨٧ بفعل تدهور الليرة اللبنانية.
وأدّت خاتمة فترة الحرب في عامي ١٩٨٩ و١٩٩٠ إلى تفاقم وضع المالية العامة بشكل حاد. فأدّى انخفاض الإيرادات الضريبية إلى اعتماد الخزينة العامة، بالإضافة إلى الديون، على أرباح مصرف لبنان التي يتمّ تحويلها إليه بموجب قانون النقد والتسليف. وبلغت حصة أرباح مصرف لبنان في تمويل الخزينة حوالى ٦٢٪ من إيرادات الموازنة في عام ١٩٨٩و ٣٨،٥٪ من إيرادات الموازنة في عام ١٩٩٠.
استمرت خدمة الدين العام في السيطرة على الجزء الأكبر من الإنفاق الحكومي، حيث شكلت ٣٠٪ من الإنفاق في عام ١٩٨٩ و٢٦٪ من الإنفاق في عام ١٩٩٠.
انتهت فترة الحرب في لبنان في تشرين الأول/أكتوبر ١٩٩٠. وفي عام ١٩٩١، شهد لبنان تدفقاً لرؤوس الأموال من الخارج، مما ساعد في تحسين وضع ميزان المدفوعات الذي حقق فائضاً قدره ١،٠٧ مليار دولار، بعد عجوزات عامي ١٩٨٩ و١٩٩٠.
وبعد غياب الموازنة لمدة ٥ سنوات، اتسمت نهاية عام ١٩٩٠ بإصدار الموازنة العامة. تحسن وضع المالية العامة نسبياً، لكن استمرار العجز أدّى إلى نمو قوي في الدين العام الداخلي الذي زاد بنسبة ٦٦٪ عام ١٩٩١ و٩٢٪ عام ١٩٩٢. وتطور الدين العام الداخلي مقوّماً بالدولار من ٣،٧ مليارات دولار عام ١٩٨٢ إلى ٢،٧ مليار عام ١٩٩٢ (مع تدهور سعر صرف الليرة إزاء الدولار الأميركي)، وتراجع بذلك الدين العام الإجمالي (الذي يشمل الدين الداخلي بالليرة اللبنانية والدين الخارجي بالعملات الأجنبية) مقوماً بالدولار من ٤ الى ٣ مليارات دولار للفترة نفسها.
كما أصدر مجلس النواب قانون رقم ٤٢ /١٩٨٦، يمنع الحكومة من التصرف باحتياطي مصرف لبنان من الذهب الموجود لديه أو لحسابه، أياً كانت طبيعة وماهية هذا التصرف مباشرة أو غير مباشرة…
ويبقى القول، إنّه في نهاية العام ١٩٩٢ كان مجموع الدين العام الثابت المتوجب على الخزينة اللبنانية يعادل نحو ٣ مليارات دولار أميركي، منه ٣٢٧،٥ مليون دولار أميركي والباقي بالليرة اللبنانية.
وباحتساب كلفة خدمة هذا الدين العام على أساس معدلات الفائدة السنوية المعتمدة لدى مصرف لبنان على مدى السنوات ١٩٩٢ – ٢٠١١ والمدفوعة من الخزينة اللبنانية، فإنّ تلك المبالغ المتوجبة في نهاية العام ١٩٩٢، وبعد إضافة الفائدة المتجمعة على مدى كل سنة بين عامي ١٩٩٢ و٢٠١١ بلغت ٣٠ ألف مليار ليرة لبنانية. كذلك ارتفع الدين بالدولار الأميركي بفعل تراكم الفوائد على رصيد الدين العام، ليصبح أكثر من ملياري دولار أميركي للفترة نفسها، فيما كان قطاع الكهرباء يراكم سلفات بالدولار الأميركي وفوائد عليها تخطّت ١٨ مليار دولار حتى العام ٢٠١١ مما رفع الدين بالدولار لأكثر من ٢١ مليار دولار. واستمرت الكهرباء بتسجيل عجز مالي سنوي بحوالي ٢ مليار دولار وتتراكم عليها الفوائد…
علماً أنّه بين عام ٢٠٠٢ وعام ٢٠٠٨، اكتسبت الديون بالعملات الأجنبية زخماً بارزاً، عكس نجاح لبنان في الاستفادة من أسواق رأس المال الدولية، لا سيما مع مؤتمرات الدعم الدولية للبنان. فيما بدأ الإتجاه بدءاً من العام ٢٠١٦ الى خفض خدمة الدين العام، من خلال استبدال تدريجي لجزء من الدين بالليرة الى دين بالدولار، بالاعتماد على الهندسات المالية لوزارة المال والمصرف المركزي والمصارف اللبنانية، وهي المموّل الرئيسي للدولة اللبنانية.
والخلاصة، أنّ الدين العام في لبنان كان حتى مطلع التسعينات بمعظمه بالليرة اللبنانية، لكن تنامى الدين بالدولار بشكل أساسي مع تزايد سلفات الكهرباء وتراكم الفوائد عليها، وتشجّع جميع الأفرقاء المعنيين على زيادة حصة الدين بالدولار من خلال اليوروبوند، رغبة بتخفيض خدمة الدين العام، كون الفوائد على اليوروبوند أقل من فوائد سندات الخزينة بالليرة اللبنانية بسبب فرق مخاطر العملة، فضلاً عن هدف زيادة الاحتياطي بالعملات الأجنبية، دفاعاً عن خيار ربط الليرة بالدولار على أساس سعر صرف ١٥٠٧،٥، في ظل استمرار الدولرة بمعدلات مرتفعة وتدهور وضع ميزان المدفوعات تحديداً منذ العام ٢٠١١… الدروس للمستقبل تبدأ بمعالجة مكامن الخلل…