قيادة العالم الحرّ وحرب اقتصادية باردة

بقلم: غازي أبو نحل

…وكأن العالم خرج من عزلته، من تقَوقُعه وحتى سُباته… وإنطلق في عملية الإستعداد للمرحلة المقبلة.

نزعت «مراكز العالم» الكمامات عن وجوهها، وانطلقت في لقاءات ثنائية وجماعية تتدارس الأوضاع وتضع الخطط للمواجهة.

في بريطانيا، إلتقى قادة دول مجموعة السبع، واتفقوا على توزيع مليار جرعة لقاح ضد فيروس كورونا عالمياً وتسريع التصدي للتغيّر المناخي ومواجهة نفوذ الصين وروسيا وأجمعوا أن إقتصاد العالم بدأ يخرج من ركوده ويتجه لتحقيق معدلات نمو جديدة.

تمويل توزيع مليار جرعة لقاح ضد فيروس كورونا إكتسب زخمه من قمة الصحة العالمية لمجموعة العشرين التي إستضافها رئيس الوزراء الإيطالي ماريو دراغي ورئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون ديرلاين، ومن قمة غافـي كوفاكس للإلتزام بالسوق المتقدم التي استضافها رئيس الوزراء الياباني يوشيهيدي سوجا، وهو يعتبر خطوة متقدمة في مواجهة كوفيد-١٩، لاسيما في الدول الفقيرة حيث الوباء يتطور بإستمرار، من دون القدرة على المواجهة بالتلقيح لغياب القدرات والإمكانات. وكنا أشرنا في مقالات سابقة إلى أهمية وضرورة مساعدة المجتمعات والدول الفقيرة على مواجهة هذا الوباء.

في مقال سابق أيضاً، حللّنا بكثير من الموضوعية المشفوعة بالأرقام والدراسات والتوقعات تأثيرات التغير المناخي على اقتصادات العالم، وقطاع التأمين من ابرزها، وأشرنا إلى سُبل المعالجات التي اتفق عليها الخبراء والعلماء ومواقف الدول المتقدمة منها.

الطبق الرئيس على مائدة قادة دول مجموعة السبع عنوانه: الصين. الرئيس الأميركي جو بايدن كان صرّح قبل لقاء القادة بأنه يعتزم العمل مع الحلفاء لبناء إقتصاد عالمي «أكثر عدلاً وشمولية. دعونا نبدأ العمل»، وذلك بعد «استعادة أميركا مصداقيتها لكي تقود العالم الحر» و«أن القوى الديمقراطية تخوض منافسة مع تلك الإستبدادية».

في الواقع بدأ الرئيس بايدن تصويب سهامه بإتجاه الصين في الأيام الأولى لرئاسته، حيث أصدر في شهر شباط/فبراير الماضي أمراً تنفيذياً للوكالات الفدرالية لتضع تصوراً لطرق تعزيز الإنتاج المحلي لمجموعة من المكونات الصناعية، مثل الرقائق، وبالتالي تقليل الإعتماد على الموردين الأجانب، أي الصين عملياً. الشهر الماضي بدأ الأمر التنفيذي يسلك الطرق التشريعية اللازمة للتنفيذ الفعلي.

يعتبر «قانون الإبداع والمنافسة الأميركية» الذي قدّمه زعيم الأغلبية الديمقراطية في مجلس الشيوخ تشاك شومر والعضو الجمهوري في المجلس تود يونغ، وتمت الموافقة عليه يوم ٨ حزيران/يونيو الماضي بأغلبية ٦٨ عضواً مقابل ٣٢ عضواً، مؤشراً على التغيّر الإيجابي في السياسة الاقتصادية الأميركية.

هذا القانون، الذي يُعرف بإسم «قانون الصين» جاء لأسباب وجيهة، إذ يُمكن القول أن بكين كانت الملهمة لهذا القانون الذي يحاكي النموذج الاقتصادي الذي تقوده الدولة في الصين، من خلال إنشاء صندوق حكومي برأسمال ٢٥٠ مليار دولار أميركي لتمويل الأبحاث العلمية ودعم صناعة أشباه الموصلات في أميركا. كما أن صعود الصين وسياستها الخارجية العدائية والخوف والقلق اللذان تثيرهما في واشنطن هو الشيء الوحيد الذي دفع الجمهوريين والديمقراطيين للتحرك المشترك والقيام بعمل واحد.

وفي الواقع، فإن عدم قدرة أميركا على الضغط على الصينيين لتقليص الدعم السخي لشركاتهم من خلال المحادثات أو الرسوم الجمركية العقابية، دفعها لتبنّي مبدأ «إذا لم تتمكن من التغلب عليهم، إنضم اليهم». هكذا عادت الدولة في أميركا لممارسة دور إقتصادي مباشر. فإلى جانب «قانون الصين» هناك خطة الوظائف الأميركية التي تتضمن رصد مبلغ ١٧٤ مليار دولار من أموال الحكومة لتشجيع صناعة السيارات الكهربائية في الولايات المتحدة على الطريقة الصينية.

تمثل هذه الخطط تحولاً كبيراً في السياسة الاقتصادية الأميركية، التي تواجه معارضة المحافظين المتشددين، وتكشف عن تنامي النفوذ والتأثير الصيني على الاقتصاد العالمي، وقد ظهرت قوة الصين بالفعل في التجارة والتكنولوجيا خلال الأعوام الماضية، وهي تفرض وجودها حالياً في إطار الافكار الاقتصادية، حيث بات نموذج الاقتصاد الصيني، القائم على التفاعل بين دور الدولة وديناميكية القطاع الخاص مُعرّضاً للاستنساخ من كبريات الاقتصادات العالمية. وفي هذا المجال، نشير الى ما كتبه كلايد بريستوفيتز في كتابه «العالم ينقلب رأساً على عقب: أميركا والصين والصراع من اجل قيادة العالم» ان «الأمر يتعلق بثقة الصينيين في الدولة اكثر مما يجب وثقة الاميركيين فيها بأقل مما يجب».

الرد الصيني جاء في بيان للجنة الشؤون الخارجية في البرلمان بالقول «ان هذا القانون يكشف جنون العظمة والغرور لدى الولايات المتحدة» معتبرًا أن واشنطن تبالغ في ما يسمّى «التهديد الصيني». ولعلّ بكين كانت تقصد تحديداً كلام بايدن الذي أعقب اقرار مجلس الشيوخ للنص، حين قال ان بلاده تخوض منافسة لكسب القرن الحادي والعشرين، وأضاف من غير ان يسمّي الصين «مع مواصلة البلدان الاخرى بالاستثمار في انشطة البحث والتطوير الخاصة بها لا يمكننا ان نتخلف عن الركب»، مؤكداً ضرورة ان تحافظ أميركا على مكانتها باعتبارها الدولة الاكثر ابداعاً وانتاجية في العالم.

خطة بايدن اكبر استثمار في البحث العلمي شهدته الولايات المتحدة منذ عقود. يأتي ذلك بعد تراجع نصيبها في تصنيع اشباه الموصلات على مستوى العالم بشكل مطّرد من ٣٧٪ العام ١٩٩٠ الى نحو ١٢٪ حالياً.

زعيم الاغلبية الديمقراطية في مجلس الشيوخ تشاك شومر يقول: «المعادلة بسيطة اذاً أردنا أن يستمر العمال الأميركيون والشركات الأميركية في قيادة العالم، فيجب أن تستثمر الحكومة الفيدرالية في العلوم والبحث الأساسي والابتكار، تماماً كما فعلنا بعد عقود من الحرب العالمية الثانية». أضاف: «كل من يفوز بالسباق على تقنيات المستقبل سيكون قائد الاقتصاد العالمي، مع ما يعنيه ذلك على صعيدي السياسة الخارجية والأمن القومي أيضًا».

تجدر الإشارة، إلى أن مشروع القانون نصّ على عدد من الأحكام المتعلقة مباشرة بالصين، أهمها حظر تنزيل تطبيق «تيك توك» في الأجهزة التابعة لإدارات حكومية، وحظر شراء الطائرات المسيّرة الصينية، كما سيُسمح للدبلوماسيين والجيش التايواني بعرض علمهم وارتداء زيّهم الرسمي أثناء وجودهم في الولايات المتحدة في زيارات رسمية. وهو أمر يستفز حتماً بكين التي تصر على اعتبار تايوان جزءاً لا يتجزّأ من أراضيها. كما أنه سيفرض عقوبات جديدة واسعة النطاق على الكيانات الصينية المتورطة في الهجمات الالكترونية التي تتعرض لها جهات أميركية، أو في سرقة الملكية الفكرية من شركات أميركية. وينص مشروع القانون على مراجعة ضوابط التصدير على أي منتجات يمكن استخدامها في انتهاكات حقوق الإنسان.

خلاصة القول إن الحرب الاقتصادية بين واشنطن وبكين استؤنفت، إنما في شكل جديد حددته إدارة الرئيس الديمقراطي. وهي ستكون واسعة ولها حكماً ارتدادات جيوسياسية على مستوى العالم كله.

تبقى الاشارة أخيراً، ومن منطق التعليق على النقاط التي أثارها قادة دول مجموعة السبع في لقائهم الأخير، إلى عودة التعافـي للاقتصادات العالمية، لا سيما في الدول المتقدمة والنامية، حيث رفع البنك الدولي توقعاته للنمو العالمي لعام ٢٠٢١ إلى ٥،٦ في المائة، مما يمثل أقوى تعافٍ من ركود في ٨٠ عاماً، بفضل إنفاق تحفيزي في الولايات المتحدة ونمو أسرع في الصين، لكن يعطله وصول «غير متكافئ بدرجة كبيرة» الى لقاحات كوفيد١٩ وبالتالي فإن الدول الفقيرة التي لا تزال تنقصها اللقاحات المضادة لفيروس كورونا، سیبقی أداؤها ضعيفاً. وعلى رغم النمو الفائق، فإن اجمالي الناتج المحلي قد يبقى أقل بنسبة ٢ في المائة مقارنة بما كان سيكون إذا لم تقع جائحة كورونا ولم يتم فرض القيود لاحتواء الفيروس. ويظهر أحدث تقرير للبنك بشأن التوقعات الاقتصادية العالمية زيادة قدرها ١،٥ نقطة مئوية عن توقعاته التي صدرت في كانون الثاني/ يناير الماضي قبل أن تتولى إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن السلطة وتنفذ حزمة مساعدات ضخمة للتعافي من كوفيد١٩ بقيمة ١،٩ تریلیون دولار. وزاد البنك الدولي توقعاته لنمو الاقتصاد الأميركي بمقدار ٣،٣ نقطة مئوية من كانون الثاني/ يناير إلى ٦،٨ في المائة، وهي أسرع وتيرة منذ عام ١٩٨٤، وذلك بفضل الدعم الاقتصادي الذي وصفه البنك بأنه «لم يسبق له مثيل في زمن السلم». ورفع أيضاً توقعاته للنمو في منطقة اليورو بمقدار ٠،٦ نقطة مئوية إلى ٤،٢ في المائة، كما زاد تقديراته للنمو في الصين بالقدر نفسه الى ٨،٥ في المائة.

في المقابل ستسجل الاقتصادات الناشئة والنامية نمواً نسبته ٦ في المائة علماً أن الصين تلعب دوراً كبيراً فيها مع نمو متوقع نسبته ٨،٥ في المائة.

ويتوقع البنك الدولي الآن أن تسجل الأسواق الناشئة، مع استبعاد الصين، نمواً بنسبة ٤،٤ في المائة في ٢٠٢١، وهي توقعات مرتفعة نقطة مئوية واحدة منذ كانون الثاني/يناير الماضي. في حال أخذت في الحسبان الدول المتدنية الدخل فإن النمو سيتراجع إلى ٢ في المائة، بمعنى آخر يمكن القول أن الاقتصادات المتقدمة تعيش أفضل أيامها… والدول الضعيفة الدخل تعيش أسوأ أيامها. وفي اعتقادنا أنه رغم ان انتعاش الطلب يمكن أن يؤدي لنمو الاقتصادات الكبرى، فإنه سيتعين على الدول الأصغر والأفقر الانتظار حتى العام المقبل لتعويض خسائر الدخل للفرد، مما يعني أن النمو العالمي سوف يكون متفاوتاً وأن دخول الافراد في الكثير من اقتصادات الأسواق الناشئة من المتوقع أن لا تبقى أقل من مستويات ما قبل الجائحة، مما كان من المرجح أن يؤدي الى تفاقم سوء حالات الحرمان المرتبطة بالصحة والتعليم ومستوى المعيشة.

توقعات البنك الدولي مشابهة للتوقعات التي اطلقتها منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية مؤخراً، التي ذكرت أن نمو الاقتصاد العالمي هذا سيكون بنسبة ٥،٨ في المئة، مع تفاوت بين الدول.

كان الخبر الأبرز في القمة الروسية الأمريكية التي التأمت في فيلا «لا غرانج» التاريخية في جنيف بعد قمة قادة مجموعة السبع هو: لا حرب باردة جديدة بين البلدين، وهو ما صرح به بایدن، مشيراً إلى «أن مثل هذه الحرب لا تصب في مصلحة أحد»، وهذا يعني أن أفاقاً جديدة بدأت تأخذ طريقها إلى تحسين العلاقات بين الدولتين العظميين، والتي شهدت «حرباً باردة» متصاعدة و«صراعاً أيديولوجياً» حاداً منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وانفضاض التحالف المعادي للفاشية والنازية، إلى نهاية الثمانينات، حيث تهاوت الأنظمة الاشتراكية بلداً بعد آخر، وانهار الاتحاد السوفييتي السابق في نهاية العام ١٩٩١ منشطراً إلى ١٥ دولة، بعضها أصبحت حليفة للغرب وعضواً في الناتو وعدواً شديداً لروسيا.

على الرغم من أن الرئيس بايدن، وهو يجتمع مع قادرة الدول الست في بريطانيا ويواجه بوتين في جنيف، كان يضع نصب عينيه التحالف الصيني الروسي، فإنه يعرف أن الصين أكبر مصدّر لأوروبا وثاني مستورد منها، فهل سيكون الإتحاد الأوروبي على إستعداد للإنضمام إلى واشنطن في المواجهة الاقتصادية المحتملة أو حرب باردة جديدة مع الصين بدلاً من روسيا؟