ضرائب الشركات الكبرى في الاقتصاد العالمي

بقلم: غازي أبو نحل

سعيدٌ ان أُعلن اليوم، بعد سنوات من المناقشات، ان وزراء مالية مجموعة السبع توصلوا الى اتفاق تاريخي لاصلاح «النظام الضريبي العالمي». تصريحٌ صغير، أورده وزير الخزانة البريطاني ريشي سوناك على حسابه على تويتر يوم السبت في ٥ حزيران/يونيو الماضي، كان كافياً لأن يتحوّل الى الخبر الاهم في عالم المال والأعمال في القطاعين العام والخاص في مختلف دول العالم.

يشير الاتفاق الى ان الشركات الكبرى في جميع انحاء العالم التي تجني ارباحاً لا تقل عن ١٠٪ مطالبة بدفع ضريبة نسبتها ١٥٪ كحد ادنى على الارباح بغضّ النظر عن مكان مقرها الرئيسي. وستتم جباية وتحصيل هذه الضريبة العالمية بواسطة مرفق عالمي مركزي قبل توزيعها بصورة عادلة على الدول ذات الصلة بعمليات وارباح الشركات المدرجة، وترتيباً بحصة كل منها في الايرادات الضريبية التي تتم جبايتها. والهدف ايقاف تنافس الملاذات الضريبية على جذب الشركات الكبرى اليها.

لسنوات عدة ظلت المحادثات في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية حول كيفية التصدي لتحايلات الشركات العالمية الكبرى على الأنظمة الضريبية لتحويل أرباحها حول العالم، تراوح مكانها بسبب ممانعة أميركية، من حيث إن الشركات المستهدفة هي أميركية بالدرجة الأولى. وحين تم التوافق على ألا تقتصر هذه الضريبة على شركات التكنولوجيا، وحين أصبحت جميع الحكومات الغربية، ومنها الحكومة الأميركية، في وضع مالي استثنائي بسبب الكلفة الباهظة لجائحة كورونا، أصبح التوصل لاتفاق بين حكومات الدول الرأسمالية الكبرى السبع، مكنناً، وهو ما تم في لندن، لكن بسقف اعتُبر مخيباً، لأنه أولًا يشترط لفرض الضريبة ألا تقل أرباح الشركة محل الضريبة عن ١٠٪، اذ وفقاً للنسخة النهائية من الاتفاق النهائي، فإن وزراء مجموعة السبع «سيلتزمون بضريبة دنيا عالمية لا تقل عن ١٥٪ على أساس كل بلد على حدة، وسيلتزمون بالتوصل إلى حل عادل بشأن تخصيص الحقوق الضريبية، مع منح دول اقتصاد السوق حقوقاً ضريبية على ما لا يقل عن ٢٠٪ من الأرباح التي تتجاوز هامش ١٠٪ لأكبر الشركات المتعددة الجنسية وأكثرها ربحية». وثانياً، هذا السقف هو سقف الملاذات الضريبية في أوروبا ومعظم المراكز المالية في آسيا والكاريبي.

هذا الاتفاق أيضاً، على أهميته، ليس نهائياً، فهو أولًا ينتظر توافقاً على مستوى الضريبة التي ستفرض على الخدمات الرقمية، وهو مطلب فرنسي ملح، وشكل نقطة خلاف رئيسية مع الولايات المتحدة، حيث فرضت الحكومة الفرنسية ضريبة مؤقتة (لعدم وجود اتفاق متعدد الأطراف بعد) على شركات التكنولوجيا الأميركية، وهددت واشنطن بفرض رسوم على الصادرات الفرنسية إليها. ولذا عبر وزير المالية الفرنسي برونو لو مير، عن تطلع بلاده لاتفاق شامل على مستوى منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية خلال هذا الصيف. وأيدته أيضاً وزارة الخزانة البريطانية التي أكدت أنه في الوقت الذي ترحب فيه بالاتفاق الجديد، فإن مركز اهتمامها ينصب على اعادة توزيع الارباح، بحيث يتم فرض ضرائب على الشركات الرقمية الكبيرة في البلدان التي تحقق فيها مبيعات، فضلًا عن ان الاتفاق يجب ان يحظى بدعم اطراف اخرى مهمة في النظام الاقتصادي العالمي، كي يصبح اتفاقاً متعدد الاطراف وملزماً.

انه اتفاق تاريخي بالنسبة الى اوروبا أولاً، التي كافحت لاعوام عدة، عبر الأطر المؤسسية الاقتصادية الكبرى، مثل منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) ومجموعة العشرين ومجموعة السبع، فجاء بمثابة هدية في الزمن الصعب، وما كان ذلك ليحصل لولا تخلي الولايات المتحدة عن اعتراضاتها الحادة، لاسيما في زمن الرئيس السابق دونالد ترامب، ولولا المبادرة المفاجأة للرئيس الحالي جو بايدن، التي تسعى من خلالها الى ترطيب الاجواء وإزالة كل أسباب الخلاف والتباعد السياسي والاقتصادي بين الولايات المتحدة والقارة الأوروبية.

كبرى شركات التكنولوجيا الأميركية، مثل: غوغل، ابل، فيس بوك وامازون… اعربت عن ارتياحها لنتائج المفاوضات، اذ ان سقف الحد الادنى الذي حدده الاتفاق، جاء اقل بكثير مما كانت تتوقعه وتخشاه، إذ أنهم كانوا ينتظرون ضريبة تتراوح نسبتها بين ٢١ و٢٥٪ كما اقترح الرئيس الاميركي وسعى الوفد الاميركي المفاوض، بدل النسبة التي تم الاتفاق عليها. متحدث باسم شركة امازون قال «ان اتفاق مجموعة السبع خطوة مرحّب بها الى الامام في الجهود المبذوله لتحقيق الاستقرار في النظام الضريبي الدولي». اما المتحدث بإسم غوغل فقال «ندعم بقوة العمل الجاري لتحديث القواعد الضريبية الدولية، ونأمل ان تواصل البلدان العمل معاً لضمان الانتهاء من اتفاق متوازن ودائم قريباً».

الدول النامية ستكون سعيدة بكل تأكيد، اذا سمحت لها «الصفقة الضريبية» للدول السبع، بالحصول على الحق في اضافة مصدر جديد لايرادات موازناتها المختلّة، بفضل هذه الضريبة كما الرسوم التي ستقرّر لاحقًا على الخدمات الرقمية التي توفرها شركات التكنولوجيا في اسواقها.

لكنها تتساءل: هل سيحدث هذا فعلًا؟

مرّد التساؤل هذا، يكمن في اقرار الصفقة بفرض ضرائب على الارباح التي تحققها ١٠٠ من اكبر الشركات في العالم في البلدان التي يكون لها فيها وجود مادي، ومن المعروف ان وجود مثل هذه الشركات في البلدان النامية او الفقيرة يكاد يكون معدومًا او رمزياً في احسن الاحوال. اذ ان مقار هذه الشركات هو في الدول المتقدمة التي ستحصل على الحصة العظمى من نسبة الضريبة المقتطعة. اي ان الشركات ستدفع معظم ضرائبها لسلطات الدولة التي يوجد بها مقرها الرئيسي، حتى لو كانت ارباحها، وكذلك عمالتها والمواد الخام المستخدمة مصدرها البلدان النامية. كما ان هذه الصفقة قد تحرم المراكز المالية في الدول النامية من ميزاتها الضريبية التنافسية.

يبدو واضحاً ان الدول النامية لم تشكل فريقاً قوياً ومتجانساً لتأمين مصالحها، كما انها لم تتمكن من فرض وجهة نظرها القاضية بإجراء اصلاحات اكثر شمولاً للنظام الضريبي العالمي واكثر تبسيطاً من النظام الذي خرجت به مجموعة السبع، بما في ذلك ما اقترحته في الاصل البلدان الاعضاء في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) ومنها ان تشمل الضريبة آلاف الشركات الدولية وليس الـ١٠٠ شركة فقط التي حددتها الولايات المتحدة والعمل ايضاً على فرض حد ادنى من الضريبة العالمية على الشركات متعددة الجنسية.

البلدان النامية التي تعاني من استغلال الشركات المتعددة الجنسية الثغرات القانونية وعدم التطابق في القواعد الضريبية لتجنب دفع الضرائب حقّقت فرقاً لجهة اقرار تعاون الائتلاف الضريبي العالمي المتمثل في ١٤٠ دولة وسلطة قضائية على تنفيذ ١٥ اجراء لمعالجة التهرب الضريبي وتحسين تماسك القواعد الضريبية الدولية وسد الثغرات وعدم التطابق في القواعد الضريبية الذي تستغله هذه الشركات لتحويل ارباحها الى بلدان منخفضة او خالية من الضرائب، بما اعطى بارقة أمل ولو متواضعة في هذا المجال.

سفير نيجيريا لدى منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية لخّص معاناة وواقع الدول النامية بالقول «ما أفهمه فيما يتعلق بالقواعد التي يجري تطويرها حالياً هو أن الدول النامية تكاد تخرج صفر اليدين منها، وان الولايات المتحدة جانبت المنطق الاقتصادي باستهداف ١٠٠ شركة فقط، ما يمثّل تقليصًا لمقترحات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية التي كان من الممكن ان تغطي آلاف الشركات» اما ممثل منتدى ادارة الضرائب الافريقي (African tax Administration forum) فذهب الى ابعد من ذلك بالتصريح «مع ان للدول النامية تأثيراً على الطاولة الّا ان من الصعب عليها مواكبة تعقيدات المباحثات. فليس هناك مستوى عالٍ من الوعي السياسي في افريقيا بهذه القضية ومدى اهمية الصفقة».

الى الدول النامية، جاء رد فعل المنظمات الدولية غير الحكومية قاسياً. مجموعة اوكسفام العالمية التي تضم ٢٠ مؤسسة تعمل على مكافحة الفقر في العالم قالت «من السخف ان تدّعي مجموعة الدول السبع التي تعمل على اصلاح نظام ضريبي عالمي معطل من خلال وضع حد ادنى عالمي لمعدل الضريبة على الشركات يشبه المعدلات الميسّرة التي تفرضها الملاذات الضريبية مثل ايرلندا وسويسرا وسنغافورة. انهم يضعون المعايير المنخفضة للغاية بحيث يمكن للشركة تخطيها…. هذه ليست صفقة عادلة، ولا يمكن لمجموعة السبع ان تتوقع من غالبية دول العالم قبول الفتات المتساقط عن مائدتها».

قال ألبرت اينشتاين ذات مرة ان «اصعب الامور في العالم هو فهم ضريبة الدخل».

قد يكون ذلك صعباً بالفعل ولكن يمكن اقامة نظام لضرائب الشركات يعبّر بصورة افضل عن التغيرات في الاقتصاد العالمي.

اعتقد اننا بحاجة الى قواعد جديدة في هذا المجال، لان هناك تصوراً شائعاً بان الشركات الكبرى متعددة الجنسيات تدفع القليل من الضرائب، ولا تلعب بالتالي الدور المطلوب منها في تحقيق عدالة اجتماعية حقيقية او حتى المساهمة في التخفيف من عذابات مآسي الكثير من البشر.

بيّن اعتبار وزراء مالية مجموعة الدول السبع هذا الاتفاق «ثورياً» و«ينهي الملاذات الضريبية» «ويلزم الشركات العملاقة على تسديد الضرائب»، ودول نامية ترى عائداته كالفُتات المتساقط من موائد الكبار ومنظمات عالمية تدعو لادخال تعديلات جوهرية عليه… آراه منصفاً لحكومات البلدان المتقدمة، عادلاً للشركات الكبرى، مجحفاً للدول النامية والمتخلفة، والاهم عدم قدرته على وضع لبنة اضافية في بنيان العدالة والتنمية الانسانية والاسهام في معالجة حالات الفقر والعوز المنتشرة في بلدان عدة من العالم.