الحر يعيد تشكيل الاقتصادات… خسائر للغذاء والسياحة والتأمين
ألهبت موجات الحر الشديدة التي تشهدها مناطق متفرقة من العالم الكثير من الاقتصادات، فقد تسببت في تعطيل البنية التحتية في بعض الدول وحرقت المزروعات وأفرغت بقاعاً سياحية من الزائرين في موسم حيوي، وأثرت سلباً على عشرات ملايين العمال، وكبدت شركات التأمين خسائر اضطرتها إلى إيقاف خدمات استمرت عقوداً ماضية.
وبينما تحذر مؤسسات دولية من تعاظم التغييرات الاقتصادية العالمية التي يتسبب فيها الحر بفعل التغير المناخي، تكبد الاقتصاد العالمي نحو ١٦ تريليون دولار على مدى ٢١ عاماً ماضية.
لقرون عدة، وقف الأكروبوليس فوق مدينة أثينا، حيث صمدت جدران معابده وأعمدته القديمة في وجه الحروب والحصار والغزو، لكنه وقع ضحية للحرارة الشديدة في الأيام الأخيرة التي اقتربت من ٤٥ درجة مئوية، بينما يعتبر الأشهر بين معالم أثينا وتكاد لا تخلو رحلة سياحية متجهة إلى اليونان إلا وتكون زيارة هذا المكان من ضمن أولوياتها.
كما أجبرت حرائق برية كبيرة اجتاحت جزيرة رودس اليونانية السلطات في البلاد على إخلاء آلاف السائحين من فنادقهم، حيث نقل ما يقدر بنحو ١٠ آلاف سائح إلى الجزء الشمالي من الجزيرة، وفقًا لاتحاد فنادق رودس. وقال الاتحاد للتلفزيون اليوناني إن السياح من ١٢ فندقًا نُقلوا بالحافلات وسيراً على الأقدام وبحراً.
وتضطر المواقع السياحية الشهيرة، ليس في اليونان فحسب، إلى إجراء تعديلات بسبب الحر الشديد، فقد اضطرت دول مثل إسبانيا وإيطاليا إلى إجراءات لتقليل أضرار الحر على القطاع الحيوي.
ورغم أن إسبانيا وإيطاليا قد تظلان بين أشهر الوجهات لقضاء العطلة بالنسبة للأوروبيين، إلا أن ثمة مؤشرات تدل على أن الطقس الحار في جنوب أوروبا بدأ يؤثر على حسابات المسافرين حول وجهاتهم المستقبلية.
وبحسب جمعية المفوضية الأوروبية للسفر التي تأخذ من بروكسل مقراً لها، وتضم منظمات سياحية أوروبية، فإن عدد السياح الأوروبيين الذين يخططون للسفر إلى الوجهات البحرية في المتوسط خلال فصلي الصيف والخريف تراجع بنسبة ١٠٪ مقارنة بالفترة ذاتها من العام الماضي.
ما زالت إسبانيا وإيطاليا وفرنسا وكرواتيا واليونان هي الوجهات الأكثر شهرة، ولكن التشيك وبلغاريا وأيرلندا والدنمارك شهدت “ارتفاعاً في الشهرة”، وفقًا لبيان صادر أخيراً عن الجمعية، وذلك بسبب رغبة المسافرين في البحث عن وجهات أقل ازدحاماً ودرجات حرارة أكثر اعتدالاً.
وتأتي درجات الحرارة المتطرفة بشدتها لهذا الصيف بعد موجة حر شهدها العالم العام الماضي. لكن وكالة الفضاء الأوروبية حذّرت في بيان، الشهر الماضي، من أن موجة الحر “بدأت للتو”.
خسائر للزراعة وغلاء
يتجاوز الأثر الاقتصادي للحر الشديد السياحة ليس في أوروبا فحسب، وإنما في آسيا والولايات المتحدة والمناطق الساحلية في شمال أفريقيا، ويمتد للزراعة والنقل والبناء والأنشطة الصناعية والتأمين، وسط توقعات بتصاعد أضراره في السنوات المقبلة وسط التغير المناخي الذي يلف العالم.
وتعاني إسبانيا، وهي من أكبر الدول في إنتاج الزيتون وزيته، من موجة الحر الشديدة هذا العام. ورغم أن سكان أوروبا على حوض البحر الأبيض المتوسط معتادون على ارتفاع حرارة الصيف، إلا أنها هذه المرة ليست اعتيادية، أي تستمر لأيام طويلة متجاوزة قدرة القطاع الزراعي على تحمّلها.
وإذا كانت إسبانيا تستشعر الخسائر بفخر صناعتها من زيت الزيتون، فإن إيطاليا هي الأخرى تعاني وكذلك البرتغال، وعموم ضفتي المتوسط الجنوبية والشمالية. ويتوقع لموسم القطاف الأوروبي القادم في سبتمبر/أيلول المقبل ألا يلبي الطلب على زيت الزيتون. وحتى مع ارتفاع الأسعار، لا يبدو أن كل المزارعين قادرون على تعويض الخسائر.
ووفق تصريحات صحافية للمدير التجاري لشركة Conserve Italia دييغو باريوتي، فإن موسم الحصاد الثاني لهذا العام، في آب/أغسطس ٢٠٢٣، مهدد بسبب الحرارة الشديدة. وتوقع المجلس الدولي للزيتون، وهو منظمة دولية لمنتجي الزيتون وزيت الزيتون، أن يكون إنتاج إسبانيا من زيت الزيتون هذا العام ٨٥٠ ألف طن.
لكن تلك التوقعات كانت قبل أن تضرب موجة الحر موسم القطاف القادم، حيث انتشر الجفاف بصورة شبه مدمرة للمحصول، وخاصة أن تقييدات حكومية أُدخلت على مستوى استهلاك المياه في عموم إسبانيا، والأندلس تحديداً.
وعلى صعيد الأنشطة الصناعية المختلفة، يحسب قادة الأعمال وصناع السياسات الآن تكلفة الشركات المغلقة وانخفاض الإنتاجية. ووجدت دراسة نشرها أكاديميون في جامعة دارتموث بالولايات المتحدة، العام الماضي، أن موجات الحر، الناجمة عن تغير المناخ الذي يسببه الإنسان، كلفت الاقتصاد العالمي ما يقدر بنحو ١٦ تريليون دولار على مدى ٢١ عاماً ماضية.
لكن من المرجح أن تتصاعد هذه التكاليف في العقود المقبلة. ونقلت صحيفة فاينانشال تايمز البريطانية، عن دان يورجنسن، وزير المناخ في الدنمارك، قوله إن “الحرارة الشديدة هي إحدى العواقب الخطيرة جدًا لتغير المناخ.. النبأ المأساوي للغاية هو أن هذا ربما سيزداد سوءاً”.
وتؤدي الحرارة الشديدة إلى انخفاض إنتاج المحاصيل، ما يؤدي إلى ارتفاع الأسعار وانعدام الأمن الغذائي. ووفق دراسة لمركز “أرشت روك” المعني بأبحاث تغير المناخ، فإن الذرة، المحصول الأميركي الأكثر إنتاجاً على نطاق واسع، تخسر حوالي ٧٢٠ مليون دولار من العائدات سنوياً بسبب الحرارة الشديدة، متوقعاً أن ترتفع خسائرها إلى ١،٧ مليار دولار بحلول عام ٢٠٣٠.
فقدان ٨٠ مليون وظيفة
أحد الأسباب الرئيسية التي تجعل الحرارة الشديدة تشكل تهديداً اقتصادياً هي أنها تجعل العمل أكثر صعوبة. ووفق المؤتمر الدولي بشأن الإجهاد الحراري المهني، الذي عقد في العاصمة القطرية الدوحة في ٩ و١٠ أيار/مايو الماضي، فإن التعرض لدرجات حرارة مرتفعة في العمل لفترات طويلة يؤدي إلى تراجع الإنتاجية وزيادة خطر الإصابة والمرض والوفاة، مشيراً في تقريره الختامي إلى أن “الإجهاد الحراري سيؤدي إلى فقدان ما يعادل ٨٠ مليون وظيفة بدوام كامل بحلول العام ٢٠٣٠”.
وبحسب لورا كينت من معهد المهندسين الميكانيكيين، وهي جمعية مهنية مستقلة تتخذ من لندن مقراً لها، فإن الصناعة تحتاج إلى التكيف مع الحرارة الشديدة التي يواجهها العالم، مضيفة وفق ما نقلت فاينانشال تايمز” “يعمل البشر بشكل أبطأ، ونتحمل المزيد من المخاطر”.
وتوقعت دراسة أجرتها منظمة العمل الدولية أخيراً فقدان ما يعادل أكثر من ٢٪ من إجمالي ساعات العمل في جميع أنحاء العالم كل عام بحلول ٢٠٢٣، إما بسبب ارتفاع درجة الحرارة، أو بسبب اضطرار العمال إلى العمل بوتيرة أبطأ.
تقول ديزي ريس إيفانز، التي تعمل في مجال السياسات في معهد تشارترد للبناء، وهو هيئة مهنية مقرها المملكة المتحدة، إن صناعة البناء هي أحد المجالات التي قد تتطلب إعادة ابتكار جذري.
وتضيف: “لا تؤثر الظروف المناخية القاسية على أعمال البناء في المواقع فحسب، بل إنها تؤثر فعليًا على المواد.. يمكن أن يتشوه الفولاذ في الظروف الحارة، بينما يصبح من الصعب التعامل مع الخرسانة وتتماسك بسرعة أكبر، ما يجعلها أكثر عرضة للتشقق والتأثير على قوتها ومتانتها، وهناك أيضًا خطر تلف الخرسانة قبل صبها. كل هذا يضيف إلى التكاليف الإضافية للقطاع”.
في الوقت نفسه، يمكن أن يتعرض توافر المياه لضغط شديد خلال فترات ارتفاع درجات الحرارة، وهي مشكلة كبيرة للقطاع الصناعي، الذي يحتاج إلى الماء لوظائف التبريد والنقل.
وعلى طول نهر الراين، أحد أهم الممرات المائية في أوروبا، واجهت الشركات اضطرابات بسبب انخفاض منسوب المياه لثلاث سنوات من الأعوام الخمسة الماضية، بما في ذلك عام ٢٠١٨ عندما عانت المراكب من السفر، ما أدى إلى تضرر إمدادات الوقود والمواد الكيميائية.
وامتدت أضرار الحر إلى خدمات الطيران. فقد أعلنت شركة أميركان إيرلاينز عن تغييرات تشغيلية خلال الأيام الماضية. كما قالت شركتا دلتا ويونايتد إيرلاينز الأميركيتان إن عمال منحدرات المطار ومناولي الأمتعة وغيرهم ممن يعملون في الخارج يحصلون على فترات راحة أكثر وإمدادات مياه إضافية.
أضرار لقطاع التأمين
وعندما يصبح العمل أكثر خطورة مع تصاعد موجات الحر، سترتفع تكاليف التأمين. ووفقاً لبيانات من شركة إعادة التأمين “سويس ري”، بلغت خسائر الكوارث المرتبطة بالحرارة لشركات التأمين، مثل فشل المحاصيل بسبب الجفاف أو أضرار حرائق الغابات في الممتلكات، ٤٦،٤ مليار دولار في السنوات الخمس حتى عام ٢٠٢٢، ارتفاعاً من ٢٩،٤ مليار دولار في السنوات الخمس السابقة.
وفي ولاية كاليفورنيا، وهي واحدة من أكثر المناطق تضرراً من حرائق الغابات، توقفت بعض شركات التأمين الأميركية الكبرى عن التأمين على المنازل الجديدة في الولاية العام الماضي بسبب الفاتورة المتزايدة من حرائق الغابات. وحذرت شركة “ستيت فارم” للتأمين من “تزايد التعرض للكوارث بسرعة” عندما فعلت الشيء نفسه في وقت سابق من هذا العام.
Comments are closed.