لعل غياب بعض الأشياء يُشكّل فرصةً لحضور أشياءٍ أخرى. فغياب دور الدولة لجهة الضمان والتأمين في ظل أسوأ الظروف، ساعد قطاع التأمين اللبناني للحضور بقوة وإثبات جدارته أمام المواطنين والدولة معاً. هذا هو رأي السيد رزق الخوري، رئيس مجلس إدارة شركة كامبرلند للتأمين وإعادة التأمين ش.م.ل.، بقطاع التأمين الذي لم يتوانَ عن مساندة المواطنين وسط الأزمات التي عصفت بلبنان. غير أنّ رأيه بقطاع تأمينات الحياة ليس مشابهاً، إذ يرى به حقلاً غير نافع مضر بصورة القطاع وبالشركات الأخرى لما يشوبه من تضليلٍ ونقصٍ في الشفافية، لذلك دعا السيد الخوري الى تنقية القطاع من الشركات المنحرفة عن عملها الأساسي. كما دعا الى تفعيل دور البطاقة الصحية بشكلٍ منطقي وايجابي بما يصب في مصلحة الدولة والقطاع عموماً ومصلحة العملاء خصوصاً.
* كيف تصفون الوضع الاقتصادي اللبناني عموماً؟
أتى هذا التراجع بدايةً على هيئة تدهورٍ مالي بعد أن انهارت العملة اللبنانية وخلّفت آليات دفعٍ وتسعير متشابكة أدّت لضياعٍ كبير والى امتزاج السياسة المالية بالسياسة الاقتصادية. نفتقر في لبنان منذ زمنٍ طويل، الى الرؤية الاقتصادية الواضحة، الأمر الذي أغرقنا في ثغراتٍ كثيرة ازدادت اتساعاً مع الوقت لنصل الى ما نحن عليه اليوم. كذلك لا يجب على الدولة معالجة هذا الداء الاقتصادي بداءٍ بديل، وبالتالي فإن الضرائب ليست الحل المناسب لسدّ الدين العام والاستقامة مجدداً، ويجب دراسة مسودة الموازنة بشكلٍ محترف للوصول الى موازنة سليمة وصحيحة قادرة على انتشال البلد من المستنقع الذي تغوص به. من المفترض على هذه الموازنة ان تكون قائمة أولاً على أهدافٍ معيّنة ليُصار في ما بعد الى اختيار الكفاءات البشرية المناسبة ووضعها في مكانها المناسب. كما أرى أنه من الأنسب أن يساهم المواطنون اللبنانيون في ادارة ما يوازي ٥٠٪ من الهيئات العامة (شركة الكهرباء والمياه…) وتقاسم الدولة والمستثمرين الأجانب ما تبقى من النسبة المئوية، وأن تعمل هذه الشركات بصورة تجارية بما يتيح للدولة تسديد كل ديونها في فترةٍ وجيزة.
* كيف ينعكس الوضع الاقتصادي المتفاقم على قطاع التأمين في لبنان؟ وكيف تمكّن هذا القطاع من الصمود والاستمرار في خضم المحن؟
أظهر قطاع التأمين مرونته في خضم كل التحديات التي يمر بها لبنان، متخطياً بذلك أزماتٍ كبيرة قد يصعب على أهم الشركات اللبنانية والخارجية تخطيها. وقد ظهرت هذه المرونة جلياً في تأمينات غير الحياة، حيث استمرت شركات التأمين في تأدية واجباتها على أكمل وجه ودفع المطالبات، تزامناً مع الأزمة التي أجبرتنا لفترةٍ طويلة تقاضي أتعابنا بالليرة اللبنانية التي فقدت قيمتها. هذه الحقبة دفعت شركات التأمين الى استنفاذ احتياطاتها ورأس مالها في سبيل الوفاء بوعودها والاستمرار في عملها على عكس قطاعاتٍ أخرى. نعم كان الوضع مرهقاً للقطاع والشركات معاً، غير أنّ صلابة هذا القطاع برزت في صموده في وجه التحديات واستمراريته في العمل. أما قطاع تأمينات الحياة فقد غاب الآن عن الساحة وقد شابه عدة استثماراتٍ خاطئة، ويمكن ربط هذا القطاع بقطاع التأمين البنكي الذي كان من المفترض ايقافه عن العمل. لطالما طالبنا بقوانينٍ مستقلّة لهذين القطاعين ولكن ما من استجابة. كما اننا ناشدنا بتشديد الرقابة على آلية عمل شركات تأمين الحياة، بحيث تعمل على الوفاء بالتزاماتها ومدفوعاتها المستقبلية دون الاحتماء بمبرراتٍ وحججٍ يفرضها الوضع الراهن، فنحن كشركات مؤتمنون على استثمارات ولا يحقّ لنا الانتقاص منها لا بشكلٍ ولا بآخر. ومن المفترض أن يتم اتخاذ اجراءاتٍ جذرية وحاسمة بشركات التأمين التي تعتمد هذه السياسة التلاعبية تهرباً من مسؤولياتها ومن عدم قدرتها على تأمين رأس مال لتسديد الخسائر وتغطية التزاماتها. لذا من واجب الرقابة القيام بمهمّة تنقية القطاع من الشركات المتلاعبة التي من شأنها أن تؤثر على سمعة القطاع والثقة الممنوحة له. أريد التنويه الى أنه من مسؤوليات المصرف المركزي أيضاً التدخّل في هذه المسائل وفرض رقابته على الاستثمارات وشركات التأمين كتلك التي يفرضها على المصارف. ويجب بالتالي حماية العملاء من الاستثمارات المضلّلة وإيفائهم حقوقهم الكاملة من الفوائد بموجب القانون. ما من مكانٍ لشركات التأمين هذه ضمن المنظومة، فكيف لها استعادة ثقة المواطنين! هي ليست شبيهة بالمصارف التي يمكنها استرداد هذه الثقة فور عثورها على الحل المناسب. تعثّر عدداً من شركات التأمين، في إحدى الفترات، وهذا التعثّر أدى الى تدهور الثقة في قطاع التأمين حيث عكف المواطنون عن شراء التأمين لمدةٍ ليست بقصيرة. عمدت بعض الشركات الى اصدار بوالص تأمين وبيعها والاستفادة منها بأرباحٍ طائلة بطريقة خارجة عن القانون.. أليس من المفترض معاقبة تلك الشركات التي عكست سمعتها السيئة على القطاع وأثرت على الشركات ذات المصداقية؟! كذلك من المتوجب مراقبة أصول هذه الشركات الممولة من اصحابها والمساهمين ومن المصارف وفرض مسؤولية دفع كافة المستحقات بالفوائد الصحيحة دون أي نقصان. رغم رداءة وضع القطاع المصرفـي، إلاّ أنه لا يمكننا تشبيهه بقطاع التأمين، إذ أنه يتم المباحثة في الأزمة المصرفية لإيجاد العلاجات، على عكس مسألة شركات تأمين الحياة التي لا تلقى اهتماماً من أي جهة، لا من قبل القطاع ولا من قبل جمعية شركات الضمان في لبنان التي باتت بمعظمها تتعاطى التأمين المصرفـي بعد أن سعت لذلك منذ سبع سنوات. تجدر الاشارة، الى أن بعض شركات التأمين تفتقد للأعمال التأمينية ولبيع البوالص، مما يدفعها للتوجّه نحو الفساد والأعمال الخاطئة. يجب توقيف هذه الشركات عن العمل لسلامة القطاع لاسيما وأنها تقدّم له السلبيات أكثر بكثير من الايجابيات. كذلك يجب وضع خطة عمل واضحة وسليمة لهذه الشركات لاعادتها الى المسار الصحيح إن كان هناك نيّة من قبل كبار المساهمين المليئين مالياً للعمل مجدداً بجدية وتحقيق الأرباح بشفافية تحت إشراف هيئة رقابية مدققة بكل أعمال وإجراءات وأرقام هذه الشركات، التي من المفترض إبقائها في السوق إن تمكّنت من إثبات ذاتها كشركة تأمين حياة فاعلة ومسؤولة وشفافة.
* استفادت بعض شركات التأمين من غياب الدولة لتحقيق أعمالٍ كبيرة لا سيما في الخطوط الصحية. لكن هل يمكن لهذه الشركات الاستناد فقط على التأمينات الصحية للاستمرار؟
هذه الشركات أفادت الدولة أكثر مما استفادت هي. فماذا لو غابت شركات التأمين عن لبنان وسط كل هذه الأزمات؟
أفضل ما قامت به هيئة الرقابة هو إلزام الشركات بتأمين كافة المواطنين بالآلية ذاتها لضمان الاستمرارية. قطاع التأمين قدّم للمواطنين حلولاً بديلة وأتاح لهم فرصة الاستفادة من التغطية الكاملة التي يدفع ثمنها عوضاً عن الضمان الاجتماعي. تقوم بالتالي شركات التأمين بإزالة بعض الأثقال عن عاتق الدولة التي غيّبت تأميناتها عن هؤلاء المواطنين دافعةً إياهم لإيجاد بدائل صبّت في مصلحة قطاع التأمين الذي اكتسب الثقة جراء وقوفه الى جانب العملاء في خضم الأزمات حينما غاب دور الهيئات العامة.
تم التداول سابقاً بمشروع البطاقة الصحية، ولكن هذا المشروع لا جدوى منه نظراً لأن المواطن سيدفع ثمن هذه البطاقة، إلاّ إن تكفّلت الدولة بدفع جزءٍ منها. هذه البطاقة الصحية تندرج تحت نطاق التأمين الصحي الخاص في كل بلدان العالم. أكثر الانظمة نجاحاً في هذا الاطار هو النظام الفرنسي الجديد لناحية الضمان الاجتماعي.
قطاع التأمين مهيّأ اليوم لتغطية كل الشعب اللبناني وحتى السوريين المتواجدين في بلدنا. وإن سعت الدولة الى فرض قانون التأمين الالزامي كما في باقي البلدان العربية وكذلك في سوريا، فسعر التأمين لن يبقى في الارتفاع ذاته بل سينخفض. من هنا نستطيع البدء بالعمل بالبطاقة الصحية التي تبرز قيمتها من خلال التغطية التي يمكن أن تقدّمها للمؤمّن له والجهات التي توافق على استقبال حملة هذه البطاقة. أما وثائق تأمينات شركات التأمين وبطاقاتها فهي معترف بها أينما كان، وكانت هذه الشركات من أوائل الشركات التي غطّت جائحة كورونا قبل اتخاذ أية قراراتٍ حكومية. فمن واجبنا كشركات تقديم التغطيات في شتى الظروف ولا سيما خلال الأزمات، حيث يتبلور دور هذه الشركات. الأمر سيّان في حادثة انفجار المرفأ، حيث توجّب على شركات التأمين دفع كل المطالبات وحيث أن بعض الشركات استفادت من هذه الحادثة لجمع الأرباح. ولكن من جهتنا كشركة نسعى لتحقيق أرباحنا بالطرق الشفافة وفي الوقت المناسب دون التهرّب من مسؤولياتنا. أريد التنويه الى أن الأعمال الجادة والمهمّة تبرز جلياً وسط الأزمات حين تغيب الحركة الناشطة للتأمين، فيتسنّى لنا الوقت للتخطيط وايجاد الحلول الملائمة. هذا ما يجب أن تقوم به الدولة أيضاً لناحية البطاقة الصحية التي من المفترض أن تتضمّن قيمةً عالية من الخدمات والتغطيات بكل ما للكلمة من معنى.
باستطاعة شركات تأمين غير الحياة الاستمرارية في العمل لا سيما بعد زيادة الوعي التأميني جراء حوادث عدة بما فيها انفجار المرفأ، وجائحة كورونا والأزمة الاقتصادية الحادة والهزات الأرضية وغيرها. ومن الملاحظ زيادة حجم اعمال شركات التأمين. لطالما كانت المحفظة التأمينية في لبنان مقسّمة الى ٧٠٪ تأمين طبي و٣٠٪ تأمينات غير صحية بما فيها تأمينات الحياة، وقد يستفيد القطاع الصحي بشكلٍ مضاعف إن تقرر إصدار وثيقة موحّدة وتوحيد التغطية. وبهذه العملية تُزال عن الدولة مسؤولية تغطيات وزارة الصحة والضمان الاجتماعي بدلاً من وجود كل هذه الأعداد من صناديق التعاضد التي تشكّل هدراً مالياً كبيراً للدولة وإنفاقاً ادارياً ضخماً. كل ما يجب فعله هو تحديد التأمين الملزم المواطن بشرائه والفئة المستفيدة من الدولة كمساعدة في دفع جزءٍ من الاقساط. لدى شركات التأمين القدرة والبيانات الكافية للمساعدة في هذا الموضوع، هذه البيانات مكدّسة على مدى ٤٠ عاماً. بعض البلدان بدأت العمل في هذه البطاقة دون وجود قاعدة بيانات.
باختصار، يمكن القول أن قطاع التأمين اللبناني استطاع إثبات نجاحه بمعزل عن قطاع تأمينات الحياة، وهو مؤهّل لمزيدٍ من الاستمرارية والتقدّم ولتسلّح شركاتها بالملاءة المالية والتقنية الكافية. هذه الشركات قادرة على التوسّع خارج لبنان بما فيها أوروبا والبلدان العربية، حيث القوانين والأنظمة والنمو المشجّع والرقابة والخطوط التخصصية الموسّعة. لسوء الحظ، تميل هذه الشركات الى التفكير بالمستقبل القريب جداً وبحجم الربحية عوضاً عن التفكير بكيفية التوسّع في بلدانٍ أخرى كأوروبا الشرقية وأفريقيا والدول العربية. قبل نشوء الأزمة، دخلنا في شراكاتٍ مع شركاتٍ أجنبية في التأمينات الطبية وذلك لما نتمتّع به من خبرة تقنية عالية. يجب الاضاءة على نقاط القوة هذه واصدار تعديلاتٍ وقوانينٍ جديدة داعمة لنا كشركات لتنفيذ مزيدٍ من الأعمال الداخلية والخارجية. يجب التخلّص من القوانين القديمة التي لا جدوى منها وتعيق عمل القطاع والشركات واستبدالها بقوانينٍ وبنودٍ مجدية وداعمة لنا كصناع تأمين بما يصب أولاً وأخيراً في مصلحة الدولة والاقتصاد اللبناني. كما من المفترض على جمعية شركات الضمان في لبنان تقديم مشروع قانون مستحدث قائم على دمج القوانين المتطورة المعمول بها في الدول العربية للخروج بقانون كامل متكامل حديث وصحيّ.
Comments are closed.