الركود التضخمي

سبق لنا وفي مناسبات عديدة ومنذ مطلع العام ٢٠٢٠ بعد اندلاع جائحة كورونا، أن حذرنا من أن العالم سوف يشهد صعوباتٍ جمّة في الإنتاج وسلاسل الإمداد وعدم استقرار الأوضاع الاقتصادية، نتيجة توقف أو تعطّل العديد من الأنشطة الاقتصادية وما ينجم عنها من تراجع النمو الاقتصادي يتزامن معه أيضاً ارتفاع في الأسعار.

وقبل عدة أيام، أصدر اتحاد المصارف العربية دراسة قيّمة حول الركود التضخمي، أشار فيها إلى التضخم الكبير الذي تشهده أسواق المواد الأولية والسلع على حدٍ سواء، وهو الأعلى منذ أربعة عقود، لكن ارتفعت وتيرته مع الحرب الروسية الأوكرانية. يتزامن هذا التضخم مع ركود اقتصادي، ما أدى إلى نشوء حالة من عدم اليقين من المرحلة المقبلة مع تخوف مواجهة حالة من «الركود التضخمي»، التي بإمكانها التسبب بضرر فادح لأقوى الاقتصادات العالمية، في حال امتدادها لفترة طويلة. وفي ظل ذلك، تشير توقعات البنك الدولي الصادرة في شهر حزيران/يونيو الماضي، عن تخفيض كبير في توقعات الآفاق المستقبلية للاقتصادات حول العالم، إذ يُتوقع أن يتباطأ النمو العالمي ليصل إلى ٢،٩٪ في العام ٢٠٢٢ نزولاً من ٥،٧٪ عام ٢٠٢١.

يعود هذا التخفيض الكبير إلى الارتفاع الحاد في أسعار الطاقة والغذاء، إلى جانب الاضطرابات الحاصلة في سلاسل القيم والإمداد وحركة التجارة الدولية نتيجةً للحرب الروسية الأوكرانية وما نجم عنها من عقوبات واسعة على روسيا والتدابير التي يجري تنفيذها حالياً من قبل البنوك المركزية حول العالم بهدف كبح التضخم.

يقارن الاقتصاديون العالميون بين الظروف الاقتصادية الحالية وتلك التي سادت خلال السبعينيات من القرن الماضي التي شهدت ركوداً تضخمياً. وبحسب البنك الدولي، فقد تطلّب التعافـي من الركود التضخمي في تلك الفترة زيادات حادة في أسعار الفائدة في الاقتصادات المتقدمة الرئيسية، الأمر الذي لعب دوراً بارزاً في إطلاق سلسلة من الأزمات المالية في الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية. وتحديداً، يشبه الوضع الحالي فترة السبعينيات من القرن الماضي في ثلاثة جوانب رئيسية:

١) الاضطرابات المستمرة في جانب العرض والتي تغذّي التضخم، وهي كانت مسبوقة بفترة طويلة من السياسة النقدية التيسيرية للغاية في الاقتصادات المتقدمة الرئيسية.

٢) احتمالات إضعاف النمو.

٣) نقاط الضعف التي تواجهها الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية فيما يخص تشديد السياسة النقدية التي ستكون ضرورية لكبح التضخم.

من جهة أخرى، يشير البنك الدولي إلى اختلاف الوضع الحالي عن أزمة السبعينيات في أبعاد متعددة منها:

١) الدولار قوي اليوم وهو ما يناقض بشكلٍ حاد ضعفه الشديد في السبعينيات.

٢) نسبة الزيادات المسجّلة في أسعار السلع الأساسية هي أقل اليوم عما كانت عليه آنذاك.

٣) الميزانيات العمومية للمؤسسات المالية الكبرى قوية بشكلٍ عام، وهو المهم، فعلى العكس من سبعينيات القرن الماضي، لدى البنوك المركزية في الاقتصادات المتقدمة والعديد من الاقتصادات النامية الآن تفويضات واضحة لاستقرار الأسعار، كما أنها أثبتت قدرتها على تحقيق أهداف التضخم الخاصة بها على مدى العقود الثلاثة الماضية.

ويتوقع كل من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي أن ينخفض معدل التضخم العالمي العام المقبل، لكن من المرجح أن يظل أعلى من معدلات التضخم المستهدفة في العديد من الاقتصادات حول العالم. وإذا ظل التضخم مرتفعاً، فإن تكرار القرارات التي تم اتخاذها خلال فترة الركود التضخمي السابق يمكن أن يتحوّل إلى انكماش عالمي حاد، يُضاف إلى الأزمات المالية الحالية التي تواجهه بعض الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية. وعليه، يتطلب تخفيض مخاطر الركود التضخمي اتخاذ تدابير قاسية من جانب واضعي السياسات حول العالم.

لذلك، فإننا نتفق مع توصيات البنك الدولي حول ضرورة استقرار أسعار النفط عند مستويات مقبولة للمصدرين والمستوردين، علاوةً على مجابهة الارتفاع الكبير في أسعار الغذاء وتعزيز إمداد السلع الأولية الرئيسية للغذاء والطاقة. كذلك تبرز أهمية دعم شبكات الأمان الاجتماعي. وقد لاحظنا بالفعل قيام عدد من الدول الخليجية والعربية بخطوات على هذا الصعيد. كما يتوجب تجنّب فرض القيود على الصادرات والواردات التي تتسبب في تضخيم زيادات الأسعار. كما تبرز أهمية تكثيف الجهود الدولية لتخفيف أعباء الدين، فقد كانت المخاطر المتعلقة بالديون قاسية على البلدان منخفضة الدخل حتى في الفترة التي سبقت جائحة كورونا. ومع امتداد مستويات المديونية المرتفعة إلى البلدان متوسطة الدخل، ستتنامى المخاطر التي تواجه الاقتصاد العالمي في ظل غياب جهود التخفيف السريع والشامل والكبير لأعباء الدين.

Comments are closed.