اقتصادات العالم مرونة وتكيّف
يعيش الاقتصاد العالمي، وكل المنخرطين فيه، أياماً عصيبة لا سابق لها.
ولكأنه صار مطلوباً في اقتصادات الدول، وكل العاملين فيها ومعها، من حكومات وشركات ومؤسسات وأفراد، التكيّف سریعاً مع الحالة الفريدة التي وجدوا انفسهم فيها فجأة. ففي وسط حمى الحرب الحقيقية المستعرة على الجبهة الاوروبية بين روسيا وحلف شمال الأطلسي على الاراضي الاوكرانية، تعيّن على الادارات القائمة على شؤون الاقتصاد العالمي، التعامل بمرونة مع هذا الواقع المقدّر له ان يستمر لفترة طويلة، لحين حسم قضيته الجوهرية، وهي رغبة روسيا في تغییر قواعد اللعبة الاقتصادية والسياسية الدولية المستقرة منذ نهاية الحرب العالمية، أي الانتقال من نظام الاحادية القطبية الى نظام التعددية القطبية، اضافة الى بسط هيمنتها على اوكرانيا.
فجأة صار مطلوباً من المصارف المركزية القيام بخطوات عملية لكبح جماح التضخم والحؤول دون الوصول إلى مرحلة الركود التضخمي، فكان الاحتياطي الفدرالي الاميركي اول المبادرين، عبر رفع سعر الفائدة مرتين متتاليتين، مع تقديرات بإرتفاع اضافـي في الاشهر القليلة المقبلة، وقد حذت معظم المصارف المركزية حول العالم حذو الفدرالي الأميركي، وان بنسب متفاوتة في ظل تقارير في مستقبلية تشير الى ان التضم عند عتبة الـ٤ في المئة ستصيب الاقتصادات العالمية المتقدمة على مدى العامين المقبلين.
وفجأة أيضاً، صار مطلوباً من الحكومات، عبر اجهزتها، التصدي لحالات تباطؤ سلاسل التوريد، ممّا سبّب نقصاً في المعروض العالمي وأدى إلى ارتفاع الاسعار في شكل غير مسبوق.
وفجأة أيضاً، صار مطلوباً من قطاع الطاقة على سبيل المثال، لاسيما الغاز والفحم (والنفط أيضاً)، تحوير وإعادة توجيه سياساته الإنتاجية والتسويقية. فكيف لأوروبا، الطرف الأصيل في الحرب (باسم حلف الناتو)، أن تشطب الغاز الروسي من مصدر تغذية اقتصادها بالطاقة، من دون الالتفات إلى حقيقة الأرقام التي كشفت عنها شركة متخصصة في بيانات الأسواق والمستهلكين يوم ٢٤ شباط/فبراير ٢٠٢٢ (يوم بداية العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا)، وهي أنه بإستثناء بريطانيا التي تؤمّن نصف حاجتها من الغاز من إنتاج حقولها وتستورد النصف الباقي من النرويج وقطر وإسبانيا التي تستورد غازها من الجزائر والولايات المتحدة، فإن فنلندا تعتمد على الغاز الروسي بنسبة ٩٤٪ولاتفيا بنسبة ٩٣٪ وبلغاريا بنسبة ٧٧٪ وألمانيا بنسبة ٤٩٪ وإيطاليا بنسبة ٤٦٪ وبولندا بنسبة ٤٠٪ وفرنسا بنسبة ٢٤٪، وهولندا بنسبة ١١٪ ورومانيا بنسبة ١٠٪.
ومنذ عام ٢٠٠٩، يتم تسليم الغاز الطبيعي الروسي إلى أوروبا عبر ١٢ خط أنابيب، منها ثلاثة خطوط أنابيب مباشرة (إلى فنلندا وإستونيا ولاتفيا)، وأربعة عبر بيلاروسيا (إلى ليتوانيا وبولندا)، وخمسة عبر أوكرانيا (إلى سلوفاكيا ورومانيا والمجر وبولندا). في عام ٢٠١١، تم افتتاح خط أنابيب إضافـي هو نورد ستريم ١ (مباشرة إلى ألمانيا عبر بحر البلطيق) الرئيسيين (LNG) وبالإضافة إلى الأنابيب، صارت روسيا، منذ عام ٢٠١٧، واحدة من موردي الغاز الطبيعي المسال وشكلت إمدادات الغاز المسال الروسي إلى أوروبا في عام ٢٠١٨، حوالي ٦٪ من إمدادات الغاز الروسي إلى أوروبا.
لذلك فإن بدائل الغاز الروسي لدول أوروبا، صعبة المنال، لأنها تتعلق باستبدال طرق الإمداد من الأنابيب إلى ناقلات الغاز، مهما كان مصدره، قطر أو نيجيريا أو أستراليا أو كندا أو حتى الجزائر التي لا تتوفر الآن على فائض في إنتاجها من الغاز خارج التزاماتها التسويقية المبرمة، أو دول حوض البحر المتوسط، حیث اكتشافات الغاز جديدة، وهي تستلزم وقتاً قبل ان تتمكن دول المنطقة من تصديرها الى اوروبا، كما ان استبدال غاز الأنابيب بغاز الناقلات يتطلب وجود محطات تغویز يستغرق اعدادها وقتاً طویلاً.
اقتصادات العالم امام رحلة تكيّف مع المستجدات. فهل تنجح؟
Comments are closed.