ازمة عالمية وصدمات اقتصادية متكررة
اوضح تقرير حديث صادر عن «ساكسو بنك»، ان الاسواق العالمية تقع تحت تأثير ٣ عوامل رئيسية، في مقدمها اضطراب الامدادات الحالية بسبب ازمة كوفيد-١٩ والحرب في اوكرانيا والقيود الملموسة في العالم، وثانيها يتمثل في اعادة تسعير الاصول على خلفية تصاعد التضخم، وثالثها بدء الاحتياطي الفدرالي تطبيق دورة تشديد سياساته في شهر آذار/مارس الماضي وزيادة معدلات الفائدة والتي من المقرر استمرارها.
العوامل المذكورة ستقود حتماً الى نتيجتين رئيسيتين: الاولى على مستوى الاقتصاد الكلي الاستراتيجي وتتمثل في زيادة الانفاق في قطاعي الطاقة والدفاع وتنويع سلسلة التوريد لازالة مواضع الفشل المفردة في القطاعات الاستراتيجية، والثانية اتخاذ اسعار الفائدة السلبية مساراً ايجابياً، بما يشير الى قدرة الاقتصاد العالمي على تحقيق قفزة كبيرة في مستوى الانتاجية بعيداً عن المكاسب المالية قصيرة الأجل، والتوجه نحو الاصول الملموسة والبنية التحتية والتشديد على العقد الاجتماعي.
كان لتقرير «آفاق الاقتصاد العالمي» المعدل والصادر عن صندوق النقد الدولي، تأثير الصدمة على المحللين. فمن النادر أن تراجع المنظمة توقعاتها للنمو الاقتصادي بهذا الهبوط الحاد بعد ربع واحد فقط من السنة الجديدة. خفّض الصندوق توقعاته لـ ٨٦٪ من الدول الأعضاء البالغ عددها ١٩٠ دولة، مما أدى إلى انخفاض بنسبة نقطة مئوية ٪ واحدة تقريباً في النمو العالمي لعام ٢٠٢٢ من ٤،٤٪ إلى ٣،٦٪.
ترافقت هذه التوقعات مع زيادة كبيرة في أرقام التضخم، وطال الأجواء الكئيبة هذه، سواد عميق من عدم اليقين، وانحدار في ميزان المخاطر، ونبوءات متنامية بتفاقم عدم المساواة داخل البلدان وفي ما بينها.
جذب تقرير «آفاق الاقتصاد العالمي» المعدل لصندوق النقد الدولي، قدراً كبيراً من اهتمام الصحافة العالمية ووسائل الإعلام. وانصب التركيز بشكل مفهوم، على حجم التعديلات الكبير نسبياً للعام الحالي، والتي يرتبط معظمها بالآثار الاقتصادية الضارة للأزمة الروسية الأوكرانية، حيث عطلت الحرب إمدادات الذرة والغاز والمعادن والنفط والقمح، وأدت إلى ارتفاع أسعار المدخلات المهمة مثل الأسمدة (المصنوعة من الغاز الطبيعي)، كما أرسلت التطورات الأخيرة تحذيرات حقيقية بأزمة غذاء عالمية تلوح في الأفق، وزيادة حادة في الجوع على مستوى العالم. وبالنظر الى حجم الاضطرابات الكبرى، فإن المفاجأة ستزول اذا اصدر صندوق النقد الدولي مراجعة هبوطية اخرى لتوقعات النمو في وقت تزداد فيه العراقيل وتعدد الصعوبات.
أعلن البنك الدولي أن بعض بلدان آسيا قد تضطر لمواجهة ٣ صدمات اقتصادية هذا العام وهي: الحرب في أوكرانيا، التباطؤ الحاد في الصين ورفع البنك الفيدرالي الأميركي أسعار الفائدة. وخفّض البنك توقعاته للنمو لعام ٢٠٢٢ لمنطقة شرق آسيا والمحيط الهادئ إلى ٥٪ من ٥،٤٪، محذراً من أن النمو قد يتراجع إلى ٤٪ إذا تدهورت الظروف أكثر، مما يؤدي إلى وقوع ٦ ملايين شخص آخرين في براثن الفقر. كما خفّض توقعات النمو في الصين، وتوقع أن ينمو ثاني أكبر اقتصاد في العالم الآن بنسبة ٪٥ فقط العام الحالي، بانخفاض حاد عن ٨،١٪ العام الماضي. هذا أيضاً أقل من الهدف الرسمي للصين البالغ حوالي ٥،٥٪.
وقال البنك الدولي في آخر تحديث له عن المنطقة: «تماما كما كانت منطقة شرق آسيا والمحيط الهادئ تتغلب على العواصف المتكررة لفيروس كورونا، تجمعت ٣ غيوم فوق الأفق الاقتصادي، مما يعني انخفاض النمو الاقتصادي وزيادة الفقر»، مرجحاً أن تؤدي أسعار الفائدة الأميركية المرتفعة إلى خروج تدفقات رأس المال من الاقتصادات النامية والضغط على عملاتها، مما يضر بالنمو.
وقال البنك إن «الصدمات المحددة للنشاط الاقتصادي في الصين، من المرجح أن تؤثر أيضا على دول شرق آسيا والمحيط الهادئ التي تتجه تجارتها بشكل متزايد نحو الأسواق الصينية»، مبيناً أن الصدمات الناجمة عن الحرب في أوكرانيا يمكن أن تؤثر على المنطقة «بشكل ملموس» من خلال تعطيل إمدادات السلع وزيادة الضغوط المالية.
وأضاف: «من المرجح أن تؤدي الحرب والعقوبات إلى زيادة الأسعار الدولية للغذاء والوقود، مما يضر بالمستهلكين والنمو»، لافتاً إلى أن عدد الفقراء في الفلبين، على سبيل المثال، قد يرتفع بمقدار ١،١ مليون إذا ارتفعت أسعار الحبوب بنسبة ١٠٪ العام الحالي.
عندما تعرض العالم للأزمة المالية في خريف ٢٠٠٨ واستمرت أغلب شهور ٢٠٠٩ كان صناع السياسة النقدية في البنوك المركزية الكبرى نجوم هذه المرحلة بفضل السياسات النقدية التي تبنوها لتجاوز الأزمة وانعاش الاقتصادات. وعندما تعرض العالم لجائحة فيروس «كورونا» المستجد منذ أواخر ٢٠١٩، عاد صناع السياسة النقدية في البنوك المركزية ليحتلوا مشهد الصدارة مجدداً بفضل سياسات بالغة المرونة وحزم تحفيز نقدي ضخمة، ولكن يبدو أن الأزمة الاقتصادية التي يمر بها العالم حالياً تحتاج إلى ما هو أكثر من تحركات البنوك المركزية. ويقول المحلل الاقتصادي ماركوس أشوورث في تحليل نشرته وكالة بلومبرغ، إن الزيادات الأخيرة في أسعار الفائدة والتي جاءت متأخرة وقليلة للغاية وتقليص الميزانيات لن تمنع معدلات التضخم من الوصول إلى أكثر من ١٠ في المائة في الوقت نفسه فان تبني سياسات نقدية تدفع الاقتصاد في اتجاه الركود بعد سنوات من تبني سياسات نقدية فائقة المرونة لن يكون سوى فشل جديد بنكهة مختلفة. والمطلوب بحسب أشوورث الذي أمضى أكثر من ثلاثة عقود في العمل في القطاع المصرفـي هو أن تتحمل السياسات المالية جزءاً أكبر من عبء تنشيط الاقتصاد.
وبعد فترة قصيرة من التفكير المشترك بين البنوك المركزية والحكومات عندما زاد الإنفاق الحكومي بالتنسيق مع برامج التحفيز المبتكرة من جانب البنوك المركزية عدنا إلى الوضع الذي تكون فيه البنوك المركزية في الحصن الوحيد ضد الركود. فالانفصال الحالي بين مستويات السياسة المالية التي تضعها الحكومات والسياسة النقدية التي تضعها البنوك المركزية يضع صناع السياسة النقدية والمسؤولين عن الاستقرار المالي واستقلالهم عن الحكومة في دائرة الهجوم بشكل خطير.
ويحذر ماركوس أشوورث من أن السير على حبل مشدود بين الرغبة في مكافحة التضخم المرتفع ودخول الاقتصاد في دائرة الركود يمثل معضلة بالنسبة للبنك المركزي الأوروبي. ففي حين يطالب الصقور في مجلس محافظي البنك بسرعة سحب برامج التحفيز والتخلي عن أسعار الفائدة السلبية، تتزايد مخاطر دخول اقتصادات منطقة اليورو إلى دائرة التباطؤ خلال العام المقبل مع التسريع في سحب حزم التحفيز.
ومع ذلك يتبقى شعاع من الأمل في تجنب هذا السيناريو الكابوسي وهو تراجع احتمالات استمرار ارتفاع الأجور، مما يحد من سرعة ارتفاع معدلات التضخم، وهنا بالتحديد تستطيع الحكومات المساعدة في الأمر من خلال تخفيف تأثير ارتفاع أسعار الطاقة على المستهلكين من أجل تخفيف آثار الموجة التضخمية الثانية.
يبدو حالياً أن محركات النمو العالمي تتعطل، والمطلوب تنسيق السياسات النقدية والمالية للخروج بأقل قدر ممكن من الاضرار.
Comments are closed.